عباس سرحان||
أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتحديدا في شباط/ فبراير، من عام 1979 نزل رجل كهل ثائر بيدين خاليتين من اي سلاح، ولا يحمل سوى مسبحة وتربة للصلاة في جيبه، نزل في مطار مهر اباد وسط العاصمة الايرانية طهران مع عدد قليل من أنصاره المقربين.
بدا الأمر غريبا ومحيرا، ولم يحدث في تاريخ الثورات أن نزل ثائر في أرض خصمه قبل ان تستتب له الاوضاع تماما، فإيران آنذاك ما زالت في قبضة حكومة شابور باختيار الذي عيّنه شاه إيران محمد رضا بهلوي رئيسا للحكومة قبل ان يغادر ايران (طلبا للراحة)، وكان الجيش والشرطة وسائر قوى الامن كلها تحت تصرف باختيار.
ومع ذلك اختار الامام الخميني الطريق الصعب وقرر النزول في طهران قادما من منفاه في فرنسا، بقلب مطمئن، واستقبله ملايين الايرانيين، وأنهى حكم شاه إيران وشكل حكومة بمؤازرة الشعب الايراني.
الى ما قبل سقوط الحكم الملكي في ايران كان الشاه، وهو شيعي المذهب، يلقب نفسه بملك الملوك، وتخضع له كل تيجان المنطقة العربية، ويستقبله المسؤولون السعوديون برقصة العرضة ويهزون الاكتاف امامه ويقرعون الدفوف ترحيبا بقدومه، تماما كما رقصوا أمام ترامب.
يفتحون له ابواب مقبرة البقيع التي تضم قبور عدد من أئمة الشيعة، فيزورها دون اعتراض من شرطة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يُواجه باتهامه بالشرك، ولم نسمع ان الاعلام السعودي نعته بالصفوي او الر١فضي.
كان كل العالم يساند شاه ايران وتدعمه امريكا واسرائيل بقوة ولم يصفه الغرب والعرب بالـ(فارسي او المجوسي) ولكن الحكاية اختلفت مع وصول الامام الخميني الى الحكم، فمع ان الثورة الايرانية كانت شعبية ومثلت تطلعات الشعب الايراني وكانت شأنا داخليا.
إلا أن العالم كله تقريبا وقف بوجهها وخصوصا الدول العربية وتحديدا دول الخليج، فما هو السرّ يا ترى؟!
البعض يقول لأن ايران بعد الثورة كشفت عن نفسها بوضوح باعتبارها دولة شيعية واعتمدت التشيع مذهبا رسميا في البلاد، وأصبحت دولة دينية.
من المؤكد أن العرب لم يستفيقوا فجأة ليعرفوا أن ايران دولة شيعية المذهب، ولم يجهلوا هذه الحقيقة في زمن الشاه ثم علموها بعد مجيء الامام الخميني.
فالأذان الشيعي كان يُرفع في جوامع إيران وتنقله اذاعتها أيضا حتى في زمن الشاه، وحوزة العلوم الدينية الشيعية في ايران من أعرق الحوزات الشيعية في العالم.
إذن لابد من سبب آخر لتبدل الموقف العربي والدولي من ايران بعد الثورة، ويكمن في كونها خرجت من بيت الطاعة الامريكي الاسرائيلي واعلنت دعمها للقضية الفلسطينية ورفعت شعار تحرير القدس ودعم الشعوب المستضعفة التي تعاني من سطوة القوى المستبدة في العالم.
إنه سبب سياسي وليس دينيا إذن، فخطاب الثورة الاسلامية الجديد والفكر الثوري لفتا انظار كل المستضعفين في الارض وحفّزا القوى الكامنة فيهم وأعادا لهم الثقة بإمكانية التحرّر من الهيمنة الغربية وسطوة الحكومات المستبدة.
وأمام هذه الصفعة القوية التي تلقتها دول الهيمنة، كان عليها أن تقوم بفعل ما لمواجهة هذا التطور الخطير، فبدأ الترتيب السريع لأوضاع المنطقة وصار لزاما على قوى الهيمنة في العالم أن تتبنى نهجا جديدا يواجه الصحوة الاسلامية التي انتشرت بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران.
وليس أفضل من تفجيــ-ــر الغام التاريخ، أسلوبا لمواجهة وحدة المسلمين التي كانت تلوح في الأفق، وتشويه صورة الثورة الايرانية ووصمها بما يحد من بريقها وسرعة انتشارها.
ولكن وصف الثورة الاسلامية بالـ(شيعية) اعلاميا لا يكفي ولا يحقق الهدف، وكان لابد من صاعق كبير يفجـ-ـــر المنطقة، بهدف تشويش المسلمين وتشتيتهم وجعلهم منقسمين بعد أن منحتهم الثورة الاسلامية الثقة بأنفسهم.
فكانت الحــ.ـرب العراقية الإيرانية أولا.
لم تكن ايران وهي تلملم اوصالها بعد الثورة وتتهيأ للتخلص من تركة الفقر والعوز والقهر التي خلفها الشاه، مستعدة ولا مهيأة لخوض حـ.ــرب دولية، من هنا فإن شن حــ.ــرب ضدها قد ينهي ثورتها وان لم يتحقق هذا الهدف فان هدف اضعاف الثورة وحشد العالم ضدها سيتحقق، هذا ما خططت له قوى الهيمنة.
ولم تجد قوى الهيمنة في العالم مدعومة بأتباعها العرب افضل من صدام حسين لخوض هذه المهمة وتمثّل دور الصاعق الذي يفجـ-ـــر كل الغام التاريخ الاسلامي وينقل منطقة الشرق الاوسط الى منعطف خطير من ابرز سماته الطائفية والعنصرية.
وانبرى صدام لتنفيذ المخطط الغربي - العربي ضد ايران مدفوعا بالولاء للغرب مرة وبالرغبة في السلطة مرة أخرى، خصوصا وأن المخطط كان يقتضي الاطاحة بالرئيس احمد حسن البكر الذي رفض ان يخوض العراق حــ.ــربا
ضد ايران، والإتيان بصدام حسين الذي كان نائبا للرئيس وهو ما حدث وفق سيناريو أعد بعناية.
وبدأت الحـــ.ـرب واستمرت ثمانية اعوام، ورافقتها الوان من خطابات قومية عنصرية وطائفية نجحت فعلا في اعادة تموضع الشعوب العربية.
فبعد ان انبهرت هذه الشعوب بايران الثورة، وجدت نفسها امام مأزق فكري وثقافي جديد، فايران الاسلامية غير العربية في مواجهة دولة عربية، والمواقف الرسمية والخطاب الاعلامي العربي كلها تحث العرب على مؤازرة العراق وتصف ايران بالدولة المجوسية.
وعلى العربي المشحون بالعصبية القبلية أصلا ان يختار خندقه، فإما ان يكون الى جانب ايران ويتحمل ما تتحمله من الوان التهم والمضايقات والعداونية واما ان يكون الى جانب صدام الذي صوره الاعلام العربي" بطل القومية العربية وحامي البوابة الشرقية وفارس العروبة"!
ونجحت قوى الهيمنة والرجعية العربية في اشغال ايران ثمانية اعوام، كما نجحت في خندقة الشعوب العربية ضدها. لكنها لم تتمكن من هزيمتها عسكريا، وإن ألحقت بها الأذى.
وأقدم صدام المحبط وهو يشعر بالاهانة والاستغفال، على غزو الكويت بعد عامين من خروجه مهزوما من حربــــه مع ايران، وأحرق كل شعارات المرحلة السابقة التي سوقها العرب والغرب ضد ايران.
فحامي العروبة الذي دعمه العرب وهو يحارب ايران التهم دولة عربية، والمدافع عن البوابة الشرقية للعرب، كسر ابواب دولة الكويت ودخلها ليلا كقاطع طريق.
وأدانت ايران التي قاتلها العرب بالامس من خلال صدام حسين، هجومه ضد الكويت وفتحت ابوابها للكويتيين الفارين من الغزو!
مفارقة كبيرة نسفت كل الحواجز الوهمية التي شيدها الغرب والعرب من حلفاء امريكا خلال حرب صدام ضد ايران في اذهان المنصفين من الشعوب العربية وغير العربية.
واعادت البريق للجمهورية الاسلامية الايرانية التي عبّرت عن مواقف مبدئية وحضارية نبيلة مع كل ما الحقه العرب بها من ويلات.
وفوجئ العالم بالشعب العراقي ينتفض عام 1991 مطالبا بحكم اسلامي وانتظم الثوار العراقيون في تشكيلات ثورية اضعفت النظام رغم ان امريكا وحلفاءها اطلقوا يده ضد شعبه وخصوصا في وسط وجنوب العراق.
وهكذا وجد الغرب وحلفاؤه الصغار من العرب انفسهم امام مأزق جديد، فبعد أن عجزوا عن احباط الثورة الاسلامية في ايران أصبحوا على وقع شعارات ثورة اسلامية في العراق.
وزادت خشيتهم حين تعاظم دور المعارضة الاسلامية في وسط وجنوب البلاد وتمكنت من قصف القصر الجمهوري عدة مرات ومن اصابة النجل الاكبر لصدام، عدي اواسط تسعينيات القرن الماضي.
فاستبقت امريكا سقوط صدام على يد ابناء الشعب العراقي الذي كان حتميا، وغزت العراق في 2003 وهي تحمل في جعبتها مخطط المرحلة التالية للغزو مؤيدة بحلفائها العرب ممن شاركوها بالامس في تنفيذ مخططها ضد ايران.
ويعد المخطط الجديد نسخة مطورة من المخطط الغربي - العربي في افغانستان ايام الاتحاد السوفيتي، فيقوم على الاستعانة بتشكيلات إرهــــ١بية تلتحق بالمخطط مدفوعة بالفتوى الشرعية المتطرفة مرة وبالفقر الذي يعاني منه معظم الشباب المسلمين مرة اخرى.
الاموال من دول الخليج، والفتاوى الشرعية للارهــــاب خليجية ومن دول عربية اخرى والانتحـ١ريون عرب واجانب من المذهب السني، والحماية الدولية والتسليح امريكي واسرائيلي، وساحة الصراع، في العراق.
وحتى يمكن ايجاد مبررات لقيام الشباب العرب من السنة بتفجيـ-ـــر انفسهم وقتـ.ـــل الابرياء لابد ان يكون هناك غطاء ديني لهذه القصة فتم تجنيد مئات رجال الدين المتطرفين ممن ينفخون في النار والفتن ليضللوا شبابا غير مدركين لحجم المؤامرة.
كل هذا المخطط الشيطاني لا علاقة له بالدين على الإطلاق، فمن يتم قتلـ.ـــهم من الشيعة بواسطة متطرفين وجهلة من السنة، هم في الحقيقة يُقتلــ.ــون لأنهم في مواجهة المشروع الامريكي - الاسرائيلي، وليس لأنهم في خلاف عقائدي جزئي مع السنة.
فالشيعة ممن تربطهم علاقات جيدة مع امريكا لا يتم استهدافهم، والشاه كما قلنا حين كان على وئام مع قوى الهيمنة كان مرحبا به في كل الدول العربية بل توج سيدا على حكامها.
إنما أريد لهذا الصراع السياسي وهو صراع هيمنة غربية اسرائيلية على المنطقة، أريد له أن يكون دينيا ليعصف بالمنطقة وينسف وحدة شعوبها التي تهدد الوجود الاسرائيلي وتقف بوجه الاطماع الغربية.
ولكي يتمكن الغرب بشكل عام من ضرب رؤوس المسلمين ببعضهم، كان لابد له من اللعب على التاريخ ليستثمر في الجهل والتخلف العربي والاسلامي مدعوما بقوى العمالة العربية. هذه حكاية الإرهــــاب في المنطقة وهي تفشل في حال بلغ المسلمون درجة من الوعي تمكنهم من اكتشاف المؤامرات قبل تنفيذها.
https://telegram.me/buratha