حسن كريم الراضي ||
كان يوما واعدا بالكثير من البرد والمطر وبدى ذلك من الصباح الباكر ،حيث كانت الغيوم المتبعثرة تلتقي وتتعانق لتكٓون خيمة تغطي سماء القرية الصغيرة النائية .. كانت خديجة كعادتها في الصباح وبعدما تنتهي من أعمال المنزل تجلس على نافذتها المطلة على الطريق النيسمي تنظر الى آخر نقطة فيه وكأنها تنتظر قادم قد يجود به الزمان عليها مرة أخرى .. كانت تنظر إلى السماء التي بدت تتلبد فيها الغيوم ومن ثم تعيد النظر إلى الطريق فهي تعلم أن غائبها في السماء ولكن أن كتب له وعاد فسيأتي في هذه الطريق وتمتمت كما كل مرة بابيات السياب : رحل النهار
ها انه انطفات ذبالته على افق توهج دون نار
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هو لن يعود ....
. اخذتها شبه اغفاءة استرجعت فيها شريط حياتها وكم الحزن الذي كانت تعيش معه بعد رحيل والدها وفقدان زوجها .. كانت قد وطنت نفسها على عدم الزواج بعد طابور الخاطبين الذي تقدم لها والذين لم يعرفوا من خديجة غير تلك الفتاة الفائقة الجمال التي أكملت دراستها الجامعية في المدينة وتمكن والدها من الحصول على وظيفة لها كمعلمة في مدرسة القرية الوحيدة .. كانت خديجة تخفي خلف ذلك الوجه الجميل ذو العينين الواسعتين والانف الرشيق والقوام الفارع حزن عميق لا تعلم أسبابه ولكنها تعلم انها طيبة غير قادرة على إيذاء أحد .. كان الحب يملأ قلبها الصغير ولم يستطع هذا الحزن أن يزحزحه ويحتل مكانه .. فقد كان الحب هو غايتها وهو وسيلتها وهي تؤمن بأن فقط بالحب تنال الكمالات الروحية وتكتسب الراحة الأبجدية .. فقد عاشت في بيت والدها الحاج طالب المدير العام لدائرة الزراعة في القضاء والذي عاش ومات ولم تتلطخ صفحته بندبة سوداء ابدا بل إن الحاج طالب كان شاخصا للقرية والقرى المجاورة يستدل من خلاله على الصواب .. تربت بكنف والدها الشخصية الحادة كالسيف عندما يتعلق الأمر بالمبادئ والقيم والذي لم يستطع الزمان أن يبدله رغم تبدل الناس وتعاقب الحكام .. حتى أنها قالت له مرة في اخر حديث لها معه قبل تفاقم مرضه الذي أودى به : بابا انك اذيتني كثيرا عندما صورت لي الدنيا كجنة وليست غابة وقد عكست صورة نفسك على هذا العالم الظالم .. واردفت : الناس في هذا العالم ليسوا كما أهل البيت والحكام ليسوا كعلي بن أبي طالب . والمجتمع لم يكن يوما كعمار بن ياسر أو حجر بن عدي أو أويس وميثم انك علمتني الحب ولم تعلمني قدرا من الكراهية استطيع ان اجابه به كراهية هذا العالم .. انك حدثتني كثيرا عن الخالق الذي هو حب محض . ولم تحدثني عن الشيطان الذي هو شر وبغض محض ..
اطرق حاج طالب ورفع رأسه تحدث بصوت رخيم متعب قائلا : خديجة .. كل يرى العالم بمنظار نفسه ويستطيع أن يفرض إرادته المنبعثة من قيمه على من حوله . . وانا استطعت أن أشق طريقي في بحر الحياة المتلاطم رغم اني لم املك ادوات ولا أسلحة كما تلك التي بأيدي القراصنة وقطاع الطرق . كنت احمي نفسي من خلال السير بغير الطرق المحفوفة بالمخاطر والشبهات فالصفات الحميدة والصدق والنبل والوفاء كمالات يقر بها ويعشقها حتى اللصوص والقتلة وهي عملة لا تفقد قيمتها كما الفضة والذهب ... لم يسير أباك يوما في الظلام ورفع شعار : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .. فأمنت من شرور الناس عندما لم انازعهم على دنياهم وتركتها لهم بعدما استيقنت نفسي قول من ساروا بطرق الكمال : لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يبالي بالدنيا من اكلها .. ثم ختم بعدما انهكه التعب : هكذا عاش اباك وهكذا وصلت إلى المحطة الأخيرة وانا صامدا مرتاح الضمير مشتاق للقاء الكبير .. صمتت خديجة وتقاطرت على خديها الموردين الدموع كأنها حبات ندى على وريقات شجر عند الصباح وتمتمت : هذا هو ابي ..
هكذا وعلى هذه القيم العظيمة نشأت خديجة ففاقت أباها في التنمر في ما تؤمن به من قيم عليا فكيف ترضى باول خاطب لها ولم تجد كفء لها وجل من تقدم لها كان لا يرى منها غير قوامها الجميل ومظهرها الأنيق وهي تعد ذلك إهانة لعقلها واستخفاف بذلك القلب المحب ؟؟
''''''''''. '''''''''
https://telegram.me/buratha