محمد عبد الجبار الشبوط ||
مالك الاشتر بن الحارث بن عبد يغوث الكوفيّ ارتبط اسمه بالامام علي عليه السلام لاسباب كثيرة من ابرزها العهد الذي كتبه اليه الامام حين ولاه مصر. ومع ان مالك لم يباشر منصبه الجديد حيث مات او قتل في طريقه الى مصر عام ٣٩ هجرية الا ان اسمه بقي في الذاكرة جنبا الى جنب مع "العهد" الذي تم حفظه بين دفتي "نهج البلاغة" الذي جمعه الشريف الرضي (٩٧٠-١٠١٦ ميلادية).
وكان الاشتر شخصية دينية وسياسية وعسكرية بارزة في ذلك الوقت. فقد كان رئيس قومه، وكان الإمام عليّ يثق به. وكان سياسيا معارضا في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي نفاه وعددا من اصحابه الى مدينة حمص السورية. ولمّا اشتدّت حدة المعارضة لعثمان عاد إلى الكوفة، ومنع والي عثمان ــ الّذي كان قد ذهب إلى المدينة آنذاك ــ من دخولها، واشترك في الثورة على عثمان، وتولّى قيادة الكوفيّين الّذين كانوا قد توجّهوا إلى المدينة ، وكان له دور حاسم في الاحداث التي تلت.
واما "العهد" فهو من اطول كتب الامام علي. وتكمن قيمته في المحتوى السياسي والاداري الذي تضمنه ولا يقل في اهميته عن وثيقة الماگناكارتا البريطانية لعام ١٢١٥، لكننا نعرف الان ان الدور الذي لعبته الوثيقة في التاريخ السياسي البريطاني اللاحق اكبر من الدور الذي لعبه عهد الاشتر.
لقد كتب الامام علي، وهو الرئيس الرابع للدولة الاسلامية في شبه الجزيرة العربية بعد مؤسسها النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم.
وعبر تدوين هذه الوثيقة عن ادراك الامام علي لحاجة الدولة الاسلامية الاخذة بالتعقد والنمو الى وثيقة دستورية تكون دليل عمل للحكام والولاة جنبا الى جنب مع الوثيقة الدستورية الام ممثلة في القران الكريم وسيرة النبي الاكرم. ولم يخالج عقل الامام علي وهم القول "حسبنا كتاب الله"، لان القران وضع الخطوط العريضة القيمية للدولة الاسلامية وترك التفاصيل الادارية والقانونية الاخرى لمن يتولون الامر من بعد الرسول لكي يقوموا بملء منطقة الفراغ في الشريعة الاسلامية في ضوء هذه الخطوط العريضة لمنظومة القيم الحضارية العليا التي جاء بها القران من جهة، والحاجات المتجددة للدولة الاسلامية الوليدة ومجتمعها الاخذ بالتطور من جهة ثانية.
لكن وثيقة "العهد" اجهضت بعد استشهاد الامام علي، لان الذين تولوا "الخلافة" من بعده حولوها الى "ملك عضوض" كما توقع الرسول من قبل. فقد عمل الملك العضوض على محو كل اثر يدل على الامام علي، ومن ابرز هذه الاثار عهده الى مالك الاشتر الذي كان من الممكن ان يكون اساسا لنمو فكر سياسي اسلامي سليم يواكب التطورات السياسية والاقتصادية للدولة دون ان يتخلى عن منظومة القيم الحضارية العليا التي جاء بها القران.
ويبدو ان هذا هو مصير كل الانتاج الثقافي والفكري والسياسي حين يتولى الحكم اشخاص يرون في الفكر الرصين خطرا على سلطتهم. وهكذا على خلاف الفرصة التاريخية التي حظيت بها الماگناكارتا وجعلتها اللبنة الاساسية في التطور الديمقراطي لبريطانيا.
ان الذين حجروا على عهد مالك الاشتر يتحملون المسؤولية المباشرة لضمور الفكر السياسي طيلة الفترة الاسلامية وصولا الى سقوط الدولة العثمانية في عام ١٩٢٤ وانحدار الفقه السياسي الاسلامي الى هاوية تبرير الاوضاع السياسية وتسويغها رغم تحولها الواضح الى ملوكية فرعونية يصرح القران علنا بادانتها بقوله على لسان بلقيس:"إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ"، وقوله:"وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا".
ــــــــــ
https://telegram.me/buratha