محمد عبد الجبار الشبوط ||
يعلمنا التاريخ بان مسيرة الالف ميل في اي تحول حضاري كبير تبدأ بحلم.
ينشأ الحلم رد فعل على واقع معاش بائس ومؤلم ومظلم. وفي لحظة ما قد يبدو امام الانسان انه من المستحيل او الصعب جدا تغيير هذا الواقع.، فيلجأ الى الحلم للتخفيف من وطأة الم ذلك الواقع. وسيكون من بين الحالمين اشخاص منحهم الله القدرة على انتاج الافكار والمفاهيم ردا على الافكار والمفاهيم التي يمثلها الواقع المرير. فيبدأون بطرح فكرة جديدة تمثل رد فعل حالم ووردي على ذلك الواقع. ومثل هؤلاء يمتازون بصفة اخرى هي الثقة العالية بانفسهم وقدرتهم على تغيير الواقع وتحقيق احلامهم. وتدفعهم هذه الثقة العالية الى سرد حلمهم على المقربين منهم. ويصادف ان بعض هؤلاء المقربين يشاركونهم نفس الحلم. وبمرور الوقت تتشكل فئة من الناس الحالمين الذين اطلق عليهم المؤرخ البريطاني المعروف ارنولد توينبي اسم "الاقلية المبدعة"، ويمكن ان نضيف اليها صفة اخرى هي "الحالمة". ينطلق افراد هذه "الاقلية المبدعة الحالمة" الى المجتمع الاوسع، ويبشرون الناس بالحلم، ويدعونهم الى ان يحلموا معهم. ويصادف ايضا ان اناسا من الذين وصلتهم الدعوة كانوا يشعرون بالالم والاسى من فداحة المعاناة التي يمثلها الواقع المعاش فياخذون بالحلم معهم بواقع افضل حيث لا معاناة ولا بؤس ولا الم. وهذا تنطلق مسيرة الحالمين بعد ان كثر عددهم وكبر حجمهم لتتحول الى حركة اجتماعية تنشد التغيير وتعمل على تشييد واقع جديد يخلو من البؤس وصعوبة العيش وتدني مستوى الحياة. وغالبا ما ينجح هؤلاء بزرع بذور النهضة في مجتمعهم فيحصل التغيير في نهاية المطاف الذي قد يطول امده او قد يقصر.
واذا كان يصعب على البعض تقبل ان يكون النبي محمد (ص) من بين هؤلاء الحالمين وهو يتحسس الالم من واقع مجتمعه العقائدي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي البائس فذهب وحيدا الى غار حراء ليحلم بواقع افضل حتى اتاه الوحي الذي صوّر له هذا الواقع الجديد الذي يشمل ملك كسرى وقيصر، ومن ثم تحقق هذا الحلم على يديه بعد ١٠ سنوات، اذا كان يصعب علينا ان ننظر اليه من هذه الزاوية وهو نبي مرسل، فسوف نبحث عن رجال او نساء حالمين غيره، لنعثر بعد ١٠٠ سنة من هجرته الى المدينة، على محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، عم النبي محمد (ص) الذي كان يسكن في قرية نائية بالشام ليحلم فيها بدولة يحكمها ولده تخلف دولة الامويين، فوجه دعاته في تلك السنة "في الافاق"، وكان لهم ما حلموا به بعد ٣١ سنة حين تمكنوا من الاطاحة بالدولة الاموية واقامة الدولة العباسية.
وبعد عدة مئات من السنين، وحين كانت انكلترا تئن تحت وطأة حكم اقطاعي مستبد، كان عدد من الاشخاص يحلمون بحكم ديمقراطي تسود فيه كلمة الشعب وتقيد فيه سلطة الملك المستبد، فكانت وثيقة الماگناكارتا في عام ١٢٥٨ اولا، ثم الثورة الانگليزية الموصوفة بالمجيدة Glorious Revolution، عام ١٦٨٨ التي عُزل إثرها الملك جيمس الثاني حاكم إنجلترا وإسكتلندا وإيرلندا في شهر تشرين الاول من ذلك العام. وكانت اولى الثورات في التاريخ الحديث والتي اعقبت الحرب الأهلية الإنجليزية (١٦٤٢-١٦٥١)، ومعاهدات وستفاليا عام ١٦٤٨، لتبدأ مسيرة طويلة كان من معالمها انطلاق الثورة الصناعية في بريطانيا منذ اواسط القرن الثامن عشر.
وظهر في فرنسا عدد من الحالمين الذين ضاقوا ذرعا باوضاعها السياسية والاقتصادية، وكان في مقدمتهم جان جاك روسو الذي الف كتابه الشهير "العقد الاجتماعي" سنة ١٧٦٢ والذي الهم الفرنسيين بعد ٢٧ سنة ليقوموا بثورة ١٤ تموز عام ١٧٨٩ والتي غيرت وجه اوروبا منذ ذلك اليوم.
(يتبع)
https://telegram.me/buratha