ادريس هاني *||
أقرأ ما بين السّطور، يتمنّع المعنى الكامن وهو مقيّد في دهاليس الخطاب، ما هذا الهراء الذي يسبق معنى المعنى، ما هذا الظاهر الذي يحجب زبدة الحقائق، هل يا ترى تعقّد فعل الكلام حتى بات حقل ألغام وألغاز؟
أحيانا يخدعنا الخطاب، بينما المعنى القابع في دهاليسه أوضح من الظاهر نفسه، لولا وجود موانع الظهور. إنّ وجود احتياطي المعنى في الباطن، أمر طبيعي، لكن حين يعمّر المعنى في الباطن على الرغم من اكتمال شروط ظهوره، نكون أمام بؤس الخطاب.
في عالمنا يوجد من المفاهيم المستعملة والألفاظ المهملة والفِكَرُ المكرّرة ما يكفي لخلط أوراق المعاني، وتمكين اللّغو وتعزيز المُلاوغة. إنّ مسؤولية الكلام وعلم التّكلّم الجديد حقّا هو ما ينظّف الذهن من كل أنواع المُغالطة ويحصّن العلم من كل أنواع الجهل. والحال، أنّ هناك مزايدات على العقل نفسه فضلا عن العقلاء، تهدف تحوير المهام التاريخية للعقل. تستطيع عبر فحص وتشريح، أن تدرك آثار أفيون الأيديولوجيا في ما يبدو جديدا متجددا مُجدجدا. لقد فقدت هذه العبارة مدلولها وآن الآوان أن نجد لها بديلا.
ما معنى التجديد؟ هذه هلوسة أيديولوجية ابتلي بها زماننا المعرفي، وهي من الخفّة بمكان، حتى أنّ من يباشرونها في الغالب هم من أحناط القديم وسقط التقليدانية. لا يكفي الماكياج الآيديولوجي المستعار لتقويض الطبيعة الرجعية عبر السطو على مفاهيم تقدّمية. فمنذ ابن خلدون، ونحن ندرك أنّ المفهوم والوعي نابع من شروطه السوسيو-تاريخية، وكل هذا لا يمكن أن يحدث بين يوم وليلة.
أعود إلى الإبداع لأؤكد على أنّ الابتكار لا يمكن أن يكون شكلا من تلخيص ما كان أصلا تقليدا على تقليد. من يرفع عقيرته بالتجديد عليه أن يدرك أوّلا، بأنّ التجديد مهمّة حضارية قلقة تتجاوز إعادة تقيّؤ الإنشاء. هذا عنوان استغباء للمتلقّي وكأنه خارج سياج تاريخ الأفكار بما فيها الأفكار المغشوشة في بيدائنا العربية. وبعد كل هذا، هل من المعقول أن يتساءل من مردوا على كل هذا بالاحتجاج على الأيديولوجيا كما لو أنّهم مستاؤون من الأيديولوجيا وزيفها وهم من دهاقنة الزيف في مداركه الأدنى؟
تحدّثوا بجديدكم وتجديداتكم إلى من فاته تاريخ الأفكار العربية وغير العربية، ازحفوا كالأفعى الرقطاء على بطونكم في الأحراش النائية والمتوارية، لممارسة الدّجل المعرفي، عند من يعيش حالة المراهقة الفكرية وتدليس البيدوفيليا الثقافية. لكم هو أمر مثير للضحك تارة وللشفقة تارة أخرى، حين يصدّق سرّاق المعنى أنفسهم ويهيمون في أحلام اليقظة. والحقيقة التي تتعلق بمعنى المعنى، هو أنّ المعنى الذي يزفّه أهل التزييف ليس سوى علامة على معنى آخر، أي تكلّم فقط لأراك.
أنصح الجيل الجديد بأنّ يحذر من أكاذيب الجيل السابق، هذه نصيحة ثورية أقدمّها مرارا للشباب الباحثين. إنّ من لم يلفت نظر جيله، وراهن على جيل المراهقة في زفّ نفسه في الوقت بدل الضائع، لا يختلف عن حركة النصب والاحتيال في ميادين أخرى. الفرق هو أنّ للفكر رجال يحمونه من ألاعيب الرجعية ومؤسساتها ومن يختبئ خلفها للتلاعب بالأجيال. وهذه مجرد تسخينات قد تسبق المعركة الكبرى التي يفرضها صوت الضمير، وحماية آخر مجال من التّفاهة. على الجيل الجديد أن يتحرّى، وأن يدرك أصول الأفكار ونظام الخطاب، وأن يتعلم كيف يحمي نفسه من خطر البيدوفيليا الثقافية عن طريق التعرف على قواعد حماية العقل والذكاء، ولينظر الإنسان إلى طعامه وفكره.....
ادريس هاني: كاتب وباحث من المغرب
24/9/2021