حازم أحمد فضالة ||
ضراوةٌ وتوحُّشٌ، قساوةٌ وعُتُوٌّ، همزٌ ولمزٌ، وَأْدٌ وقتلٌ مِنْ إملاق، تَنابُزٌ واغتيابٌ، ضَلالٌ وطُغيانٌ، نزاعٌ وفشلٌ وذهابُ ريح...
حتى بُعِثَ النبي محمد (ص) في قلب هذا الواقع المُتمرِّد غير مُتَرَدِّدٍ، فهو الخاتم، العالِم بثقلِ رسالته وعالميتها، وحجم الرَّحمة التي أودعها الله فيه حتى وسعت العالمين، وهو ليس إلا هذه الرحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الانبياء: 107]
فلا تُحَدِّدوا النبي محمد بأفهامٍ (ذات رحمةٍ مَحَليَّة) فهو (عالميٌ).
إنَّ هذا الوجود العالمي يستلزم صلابةً ومداركًا ومصادرَ معرفةٍ تتناسب مع (ثقل المشروع) ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المُزمِّل: 5]، والقرآن المُعجزة (النُبُّوة) الذي غطّى المسافة الزمنية إلى يوم يبعثون، إذ يظل يتجدد وتُكشفُ بصائرهُ، ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ [ص: 88].
أصلبُ مِنَ الجَّبَل
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ... ﴾ [الحشر: 21]
(أنزلنا) أي أن يكون للجَّبل فَهْم القرآن بوسائل المعرفة والمدارك والأفهام، فلو كان له ذلك لخشع وتصدّع مِن خشية الله، ولم يحتمل هذا الفيض والثُّقل، لأن (أوديته) ليست بهذا القدر المتعاظم لا كمًّا ولا كيْفًا، وإلّا لكانت (سالت بقدرها)!.
لكن هذا القرآن عندما يتَّجه نحو قَسَمات النبي الخاتم ومداركهِ، بثُقله وامتداده الزمني فيُنزَل عليه مُطْلَقًا ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا﴾ [الإنسان: 5].
يستوعبهُ النبي؛ خاشِعًا، تالِيًا، مُرتِّلًا، قارئًا، مُبَيِّنًا، شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا... وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا...
فهذا وعيُ النبي محمد (ص) الذي اِتّسعَ لهذا المستوى من الإعجاز إذ (يَنْطقهُ) للناس جميعًا.
فلا تُحَدِّدوا النبي بأفهامٍ (ذات رسالة مَحَلِيَّة)!، فهذه أوديةُ النبي التي (سالت بالقرآن) ولم تتصدَّع!.
أرَقُّ مِنَ النَّدى
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الكهف: 6].
﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ [طه: 2].
﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ [التوبة: 43].
النبي محمد (ص) بتجلياته في القرآن هو أسرع إلى الرحمة منه إلى العذاب، بل لم يظهر في موضع العذاب، وكيف يَظهَر عذابًا وهو (الرحمةُ للعالمين)! سَبّاقٌ بالدُّعاء لقومه، وحنّانٌ لهم (فأسقاهم حُبًّا غَدَقًا)، فهو الذي أتعب نفسه وأشقاها؛ تفكيرًا وهَمًّا بهم، وبالذين يأتون مِنْ بعدهم، ناظرًا إلى رسالته كيف تملأ الأرض دينًا قيِّمًا، حتى يُنفَخُ في الصُّورِ ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [الحاقّة: 13].
كُلُّ أحاديث القسوة والاستعباد وانتهاك (الإنسان) التي لُصِقَتْ بالنبي تحت عناوين (بشريّة) -كما رُوِيَتْ أو فُهِمَتْ- مثل: الرِّق والعبيد، الإماء والجواري... زعمًا أنّ مصدرها أسواق النَّخاسة والحروب… وغيرها من الممارسات المُعارضة لأدب القرآن، التي لا يمكن استوائها مع ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]؛ فهي (أكذبُ ما قيلَ يومًا)! فأنتَ تصوَّر أنّ الله سبحانه يخاطب نبيه الأكرم بأنه رحمة للعالمين وعلى خلقٍ عظيم... وليس المخاطِب بشرًا!.
كلُّ حديثٍ يتعارض مع (الرحمة العالمية)؛ حديث باطلٌ، وكلُّ طريقٍ لفَهم محمد الرسول النبي (ص) خارج إطار (رسالته ونبوَّته)؛ طريق مشكوكٌ في نتائجه، وكُلُّ محاولةٍ لتقعيد القرآن بقواعدٍ بشريّةٍ؛ محاولةُ إبحار إلى الجِّهةِ الأخرى بسفينةٍ مخروقةٍ؛ حيث الفهم المُتصحِّر، والتجديف بأدوات لا اتِّجاهَ لها إلّا نحو (سرابٍ بقِيعَةٍ يحسبهُ الظمآنُ ماءً)!
والحمد لله ربِّ العالمين