عمّار الولائيّ *||
لو نظرنا الى التأريخ الشيعي في العراق لوجدناه مريراً ومؤلماً ومطبوعاً بطابع التهميش والتآمر عليه لإقصائه،فوقع العراق في قبضة الاحتلال العثماني لأربعة قرون بعد غزو السلطان سليمان القانوني بغداد في عام 1534،فكان الحاكم سنّياً يأتي من اسطنبول ليحكم الأكثرية الشيعية بالحديد والنار، واستمرّ هذا الحال الى عام 1921 حينما حكم العراق عهداً ملكيّاً أسّسته بريطانيا،وأعطت للمكوّن السنّي الحكم مع أنّهم أقلّية،وشاركت الأقلّيات الأخرى (اليهودية والصابئية والكردية والمسيحية) ولم تُشرك الشيعة لا في كتابة الدستور ولا في الحكم.
واستمرّ هذا الحال الى عهد عبد الكريم قاسم 1958، ثمّ عبد السلام عارف، ثمّ عبد الرحمن عارف، ثمّ أحمد حسن البكر،ثمّ صدّام حسين الى عام 2003، كان الشيعة في العراق مهمّشين، وأكثر من هذا خصوصاً في عهد البعث المقبور يُقتَل وُيلاحَق علماؤهم ومفكّريهم ومجاهديهم وتُهدَّم حوزاتهم ويُهجَّروا الى أوطانٍ أخرى، اغتيالات وإعدامات ومشانق وسجون ومذابح للآلاف من الشباب وطلبة العلم والمجاهدين، فهذا هو تأريخنا عبر 500 عام.
ولكنَّ المجاهدين والعلماء والقوى والحركات السياسية الجهادية لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فواصلوا جهادهم في الأهوار وفي المهجر وفي الداخل، فدفعوا الغالي والنفيس من أجل تثبيت بأن يكون لشيعة العراق حقهم السياسي لكونهم المكوّن الأكبر.
في عام 2003 توفرت معلومات استخبارية لدى الإدارة الأمريكية بأنّ صوت الشيعة قد علا،وأنّ المعارضة الشيعية للنظام الصدّامي علا صوتها خصوصاً أنّها تنطلق من منطلقات إسلامية مقاوِمة، وتشكّلت تشكيلات جهادية في المهج والتي قادها وأسّس لها الشهيد الصدرالأول والشهيد الصدرالثاني وشهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم،وآخرون، وأنّ النظام البعثي مهزوز ومختلّ، فخشيت أمريكا من أن تتكرّر تجربة انتفاضة 1991 في أي لحظة ،وبالتالي يسقط النظام وتكون إدارة العراق بيد الحاكمية الشيعية بالمطلق، لذلك جاء الاحتلال الأمريكي ليمنع على الشيعة في العراق من أن يحكموا،وحينما اكتشفت أمريكا أنّها لاتستطيع أن تُنصِّبَ حاكماً سنّياً على طريقة مافعلوه في تجربة أفغانستان إذ نصّبوا كارزاي، حيث كان أول اجتماع في 15 أبريل 2003 في مدينة أور في الناصرية بحضور الحاكم العسكري في العراق الجنرال جي غارنر، إذ كانوا يريدون أن ينصّبوا حاكماً عسكرياً سنّياً أو شيعياً ليبرالياً موالٍ لواشنطن، إلّا أنّ ممانعة المرجعية العليا والجمهورية الإسلامية والولي الفقيه والقوى المقاوِمة والأحزاب الشيعية حالت دون أن تهمِّش أمريكا ثانية الشيعة كما همَّشتهم الإمبراطورية العثمانية وبريطانيا.
جاء برايمر ومعه دستور مكتوب على مقاسات واشنطن سمّاه((دستور المرحلة الانتقالية)) إلّا أنّ المرجع السيستاني(دام ظلّه) أصرّ على أن يكون هنالك استفتاء شعبي على الدستور يتمُّ فيه تثبيت حق المكوِّن الشيعي الأكبر سياسياً ودستورياً وحق باقي المكونات، ويأخذ كلّ ذي حقٍّ حقه، فأسّس الشيعة في العراق الحكم والدستور بمساعدة المرجعية العليا والجمهورية الإسلامية وعامة المراجع والحركات الإسلامية الشيعية المجاهدة، وثبّتوا حق الشيعة في الحكم دستورياً، وأجروا انتخابات تكون هي الميزة الأساس للحكم في العراق، فاكتشفت أمريكا واقعاً مغايِراً لكلّ تصوّراتها، حيث أظهر الشيعة عبر المرجعية العليا والجمهورية الإسلامية والقوى والحركات والأحزاب الإسلامية ممانعة ومقاومة سياسية منقطعة النظير لأيّ نموذج أمريكي يتم فرضه على الشعب العراقي، وبعد أن وقع الفأس في الرأس أدركت أمريكا أنّها تورّطت ورطة كبيرة، وأنّ الشيعة تلقّفوا فرصتهم التأريخية لتأسيس نظام حكم يحفظ حقوقهم، ويؤمِّن مستقلبهم السياسي، فخسرت أمريكا معركة فرض الدستور، ومعركة فرض رئاسة وزراء ومعارك أخرى كثيرة، وبالنتيجة ندمت أمريكا على إنهاء النظام الصدّامي بالكامل وتمكين الشيعة من الوصول الى الحكم في العراق، والسماح لمرجعيتهم من فرض نفسها في مقام السلطة الروحية على كل العراقيين بمختلف مذاهبهم،وهي بالنتيجة فشلت في تطويع الشعب العراقي المؤمن ليكون من المتقبّلين لفكرة إنهاء الصراع الإسلامي مع الصهاينة.
إلّا أنّ أمريكا حينما رأت أنّ العراق يكاد يخرج من يديها الآثمتين، وسيطرت عليه الأكثرية الشيعية، خشيت أن تتجه هذه الأكثرية لبناء دولة شيعية في العراق، عراقٌ متطور فيه صناعة وزراعة، عراقٌ يربط القارات ويمرّ من خلاله طريق الحزام والحرير،عراقٌ يمتلك 120 مليار برميل من النفط وترليونات من الأمتار المكعبة للغاز، من هنا بادرت الولايات المتحدة لإعطاء الحكم الى الشيعة(مكرَهين) على أن ينتزعوه منهم بالإكراه من خلال فرض ((سياسة إفشال الدولة)) عبر حلقات وصفحات تآمرية خبيثة.
واستمرّ المشروع الأمريكي في تدمير العراق ومنع الشيعة من أن يحكموا وينجحوا في تجربتهم وانتزاع الحكم منهم عبر صفحات وحلقات تمثّلت في سلطة الاحتلال من 2003 الى 2007 حيث كانوا يديرون الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية، ثمّ أتت الصفحة الثانية تمثّلت في إعادة الروح لحزب البعث الكافر فتم دعم فلول البعث بالسلاح وتأسيس حركات بعثية مسلّحة معادية للشيعة كالنقشبندية وغيرهم العديد من المنظّمات التكفيرية السنّية، فشهد العراق مذابح وتفجيرات انتحارية ومفخخات لذبح الشيعة العراقيين ثم أتت الصفحة الثالثة تمثّلت بخيم الاعتصامات السنّية المدعومة أمريكياً وخليجيّاً وما يسمّى بالعمق العربي كانت نتيجتها نشوء تنظيم داعش الإرهابي 2014 وانتهت صفحة دولة الخرافة المزعومة في نهايات 2017، فكان الشهيدين القائدين البطلين (المُهندس وسليماني) روّاد هذه المرحلة في الدفاع عن حقوق الشيعة، وردّ التحدّيات عنهم أمنياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، ومنع الفتن أو أن تسيطر أمريكا على العراق أو فلول البعث الكافر، ثم أتت الصفحة الرابعة تمثّلت باغتيال الشهداء القادة الذين أفشلوا المشروع الأمريكي الداعشي الرامي لتقسيم العراق وسوريا (سليماني والمهندس ورفاقهم ) رضوان الله عليهم، ثم أتت الصفحة الخامسة فكانت حركة الجوكر ضد الخط الشيعي الثوري عموماً لإسقاط تواجدهم في الحكم وإسقاط الهرم القيادي (عادل عبد المهدي) حتى تنهار الحكومة بالكامل، وبطبيعة الحال كانت حركة الجوكر عام 2019 وهي ((حركة شعبية شيعية)) مدعومة من الخارج وكذا الداخل العميل للمخابرات الأمريكية لخلق تيّارشيعي شعبي شبابي وغيره يقف بالضد من الحشد الشعبي وجناحه السياسي (الفتح والخط المقاوم) ،فانتهى الأمر بإسقاط حكومة عادل والدعوة الى انتخابات لعلّها بتقدير أمريكا أن تغيّر جوهر النظام السياسي.
ثم أتت الصفحة السادسة فكانت عبر تزوير الانتخابات المبكِّرة الأخيرة وسرقة الأصوات والعمل على إضعاف الشيعة خصوصاً بعد أن علم العدو الأمريكي أنّ القوم غابت عنهم رؤية التنسيق والتخطيط في هذه الانتخابات، فتشتّت عددهم أكثر،وضعف صوتهم،وتلاشت كلمتهم، فعمدت أمريكا لدعم طرف شيعي بعينه ضد باقي الأطراف الشيعية لشقّ وحدة الصف الشيعي وتشتيته،وهنا وجد الخط المقاوم أنفسهم سياسيّاً أمام طرف شيعي مستعدّ للدخول في المعركة لأجل إقصاء الأطراف الشيعية التي تُظهر ممانعة قوية للمشاريع الأمريكية، وهذا الطرف يحرّكه مَن يريد أن يمضي قُدُماً بمشروعه، لذا تسعى أمريكا وحلفائها لخلق صِدام شيعي شيعي،بل تُصمِّم على الفتنة و الصِدام والدماء، وأن لا يتوحّد الشيعة، وفي تقديرنا أن المشهد الشيعي العراقي سيستمر على هذا المنوال حتى عشيّة الظهور الشريف
وباختصارٍ شديد، وبالرجوع إلى الروايات الشريفة لاستكناه المشهد العراقي عشيّة الظهور الشريف نستنتج مايلي :
١- أنّ المشهد العراقي سيكون ضبابياً، ومشتتاً جداً، ومزرياً، والرؤية فيه متناثرة وكلٌّ يغنّي على ليلاه
٢- اختلاف شديد بين الشيعة.
٣- نجد في العديد من الروايات إشارات على جولات من الاضطراب السياسي والأمني في العراق في فترة ما قبل الظهور الشريف، ولعلّ في حديث الروايات عن الشيصباني وجماعته، وعن البتريّين وجماعتهم،وعن صاحب البرقع، وعن الرايات الثلاث التي تصطرع فيما بينها، وغير ذلك مما أشارت إليه الروايات فيه دلالة واضحة على طبيعة هذا الاضطراب السياسي والأمني.
٤- بسبب تسقيط الأعداء للمؤمنين وتبجيلهم للظالمين باستخدام الحرب الناعمة يحصل انقلاب في المفاهيم والمعايير، وانهيار في الثوابت، وانتشار سياسة خلط الأوراق وتضليل الرأي العام، وأنّ الصبيان سيجلسون على المنابر،(والمنابر هنا تعني قنوات الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي)،وأنّ الرُّويبضة سيستلم زمام الأمور،وهو الذي سيتكلّم في المسائل العامة وبالمصالح الكبيرة الاستراتيجية (والرويبضة يعني الرجل التافه لا قيمة له )، وسيتصدّى للواقع السياسي والاجتماعي، فعن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: ((سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّقُ فيها الكاذب ويُكذَّبُ فيها الصادق ،ويُؤتَمَنُ فيها الخائن، ويُخَوَّنُ فيها الأمين ، وينطِق فيها الرُّويْبِضة، قيل وما الرُّويْبِضَة يارسول الله؟ قال:الرجل التافه يتكلّم في أمر العامة)). [١]
وعن الأصبغ بن نباته قال : سمعتُ عليّاً (عليه السّلام) يقول : إنّ بين يدي القائم سنين خدّاعة، يُكذَّب فيها الصادق ، ويُصدَّق فيها الكاذب، ويُقرَّب فيها الماحل وفي حديث : وينطق فيها الرويبضة ، فقلتُ : وما الرويبضة وما الماحل ؟ قال : أما تقرؤون القرآن قوله : وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ، قال : يريد المكر . فقلت : وما الماحل قال يريد المكّار . بيان : الرويبضة تصغير الرابضة : وهو الرّجل الحقير ، والمعنى أنّ الرّجل الخامل الذكر يتكلّم في الأمور العامّة[٢]
وعن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال : أتيتُ عليّاً ـ عليه السلام ـ فقلتُ : يا أمير المؤمنين متّى يقوم القائم من وُلدك؟ فتنفَّس الصُّعَداء، وقال : (لا يظهر القائم حتّى يكون أمر الصبيان ، وتضييع حقوق الرحمن ، ويُتغنّى بالقرآن) . [٣]
٥- ولكن رغم الاختلاف والتشتت والتشضي والتبعثر، إلّا أنّ شيعة العراق سيصلون لذروة الاقتدار والمَكنة مع قيادة اليماني الموعود[٤] الذي يتمتع بمنزلة سياسية وميدانية،ووجاهة تؤهّله لقيادة الآلاف من المؤمنين المنتظرين في مرحلة السفياني، حيث سيعمل على توحيد الصف الشيعي ورصّه،وهزيمة جيش السفياني وطرده بمعيّة جيش الخراسانيّ.
المصادر:
١-المستدرك للحاكم النيسابوري ج 4 ص 466
٢- الغيبة للنعماني ص 286 ، ح 62 باب 14 .
٣- دلائل الإمامة: 473
٤-عن الإمام الباقر ـ عليه السلام ــ : (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد ، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضا فيكون البأس من كل وجه ، ويل لمن ناواهم،وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني ، هي راية هدى؛لأنّه يدعو إلى صاحبكم ، فإذا خرج اليماني حرّم بيع السلاح على الناس وكل مسلم،وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإن رايته راية هدى ، ولا يحلُّ لمُسلمٍ أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار،لأنّه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم) راجع الغَيبة للنعماني ص ٢٦٤
* العراق ـ واسط