من الحقائق التي لا يلتفت اليها الانسان في مسيرة عمره هو أنه جزء من حركة التاريخ ، فكثير من المواقف التي عاشها قد تتضمن احداث تختص فقط بتلك المرحلة التاريخية بحيث يكون بتلك الجزئيات البسيطة من حيث لا يدري شاهد على مواقف يتربص بها جيل المستقبل في محاولة فهم ماضي يُتوقع له أن يُكتب بحبر الميول والاهواء فيغيب بذلك شعور الافراد في تلك الحقبة .
واحدة من أهم محطات حياتنا كعائلة عراقية هو قرار الاقامة في سوريا اثناء تأهب العراق للعدوان الامريكي عام 2003 والذي تزامن مع شهري محرم وصفر ، إنّ كم الذهول الذي صابني حينها وانا خريجة جامعية يصور مستوى الحرمان الروحي الذي نعيشه في العراق تلك الفترة وخاصة سكنة العاصمة بغداد ، فالمجالس في زمن الطاغية كانت مختصرة ومحدودة يشوبها القلق تارة والاتكيت تارة اخرى !!! .
هذا كحد اطلاعي كشاهدة على ذلك التاريخ في محوطة العاصمة ، فلقد كانت المجالس بالنسبة لمواليد الثمانينات لوحة تراثية متكونة من فقرات يُسرد فيها قصة يتفاعل معها الكبار بحرقة ( كونهم شواهد على مرحلة تاريخية اخرى كان فيها الطرح اعمق لتلك الحادثة ) ، اما انا فقد كان جل تركيزي في اللحظة الواجب فيها اطفاء الانوار اثناء المجلس ! وغسل الصحون اخرها .
حين دخلت الحسينية الزينبية في منطقة السيدة زينب ، ادركت انني ادخل حسينية لاول مرة في حياتي!! فلم يسبق لي دخول مكان بهذا العنوان في بلدي ، مرت الايام عشت فيها اجواء لو انني اكرس ما تبقى من عمري لحمد الله تعالى على توفقي لعيشها لما وفيت ، باختصار فلقد اكتشفت روح العراق الاصيلة خارج العراق !! روح القضية الاصلية وحرقة القضية الحسينية .
ولكن كان لابد للماضي أن يؤثر ، فأن تعيش القضية في صفحات كتب كنت تختلس قرائتها سرا ً في بلدك ، وتبتدع طريقة خاصة للتفاعل معها وانت محاصر بشوك البعثية يجعل انسيابيتك مع مراسيم العزاء بكل هذا الكم من التفاصيل متلكئة قليلا ً رغم الاندفاع !.
كان بكائي محدودا ً امام فيض مشاعر الاخرين ، وكنت لا اجرأ على ان اشارك في بعض انواع العزاء وعزيت الامر لعدم التعود او الخجل وربما للتكبر !! ولكني في كل لحظة كنت مدركة تماما ً اني اخسر فرصة عظيمة فإن لم تقم الحرب وبقي صدام ورجعنا فلن ارى هكذا اجواء مرة اخرى !! وفي اثناء جلساتي في حضرت السيدة زينب كنت اطيل التفكير في مسألة التوفيق لفهم القضية اكثر كيف يكون ؟ اله باب ام ابواب ؟ اله الية دون اخرى ؟ كيف يتعامل المحروم مع هذا الانفراج ؟ وتمنيت لو ان طف كربلاء يرسل لي رسالة تكون دافعي للتقدم في ميدان التفاعل السلوكي مع المعزين .
وذات يوم كنت اسير مع والدي في شارع كنت فيه على حافة طريق فرعي تفصلني امتار للاستدارة للشارع الرئيسي وكانت خلفي سيارة صغيرة للحمل تقدمت واستدارت قبلنا في ذلك الشارع الواصل بين الساحة العراقية ومقام السيدة ع ويبدو انها تحمل بكرات من الاسلاك ( وايرات للبناء ) وللحظة شهقت شهقة لم تتبعها زفرة فلقد كان احد الاسلاك متدلي خلف السيارة وبمجرد الاستدارة طار في الهواء ثم هوى بشكل مفاجىء على كتفي .
توقفت السيارة ونزل الرجل يعتذر لوالدي وكلاهما ينتظران مني حرفا ً غير انني لم استطع اخراج زفير لأتحدث ، نزول السوط على كتفي لم يكن مؤلماً بقدر ما كان هاضما ّ ، كٌتمت عنده انفاسي وترقرقت دمعة في عيني ، في تلك اللحظة وقعت عيني على قبة السيدة فخاطبها قلبي لا تقولي لي ان ضرب السياط كان على هذا النحو ؟!! استأذنت والدي واتجهت بخطوات مسرعة اليها واردد في نفسي
لقد كان والدي معي ...... وشعرت بالهضم
لقد كان حادثا ً .................. وشعرت بالهضم
لقد اعتذر الشخص .............. ولا زال الهضم يخنقني
اتكون تلك الرسالة التي وصلتني من طف كربلاء !!!!! ماذا عن باقي الرسائل؟!
تعامل مع الواقعة على انها متجددة . فأنت لم تعرف ما جرى هناك ولو افنيت عمرا ً لذلك ، وادرك دائما ً ان رجلا ً واحداً يراها بعين اليقين يستحق ان نوظف دعائنا لقلبه ان يتحمل تجدد المصيبة عليه كل عام ذلك هو المنتظر الباقي من تلك السلاسلة النجيبة .
وتعامل مع الايام على انها دول تنقلك من متاحات لممنوعات فاستغل الفرصة كأحسن ما يكون فمتاحك اليوم ممنوع الامس ونحن شهود ، على ان توازن فلا افراط ولا تفريط. فالفرط في المتاحات يفقد القضية كثير من جوانبها الرصينة ،وليكن سؤالنا لله منحصر في التوفيق للخدمة بما يوسع من دائرة معرفتهم عليهم السلام.
نسألكم الدعاء
https://telegram.me/buratha