متطوعون يبذلون جهودا مضنية للتخفيف من معاناة المسير مشياً على الأقدام إلى كربلاء
جميل عودة
عن الإمام جعفر الصادق “ع” قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين “ع” من الفضل لماتوا شوقا، وتقطعت أنفسهم عليه حسرات، قلت: وما فيه؟.. قال: من زاره تشوقا إليه كتب الله له ألف حجة متقبلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله….
في العشرين من صفر من كل عام، يتوجه المسلمون في العراق وغيره من البلاد الإسلامية لزيارة قبر الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وأولاده وأخوته وأصحابه “ع” الذين قتلوا في معركة كربلاء على يد جيش عبيد الله بن زياد القائد الأموي في العاشر من محرم من سنة 61 للهجرة.
ففي كتب التاريخ، هنالك رأي: بأن أهل البيت (ع) رجعوا بعد عاشوراء من الكوفة إلى كربلاء، قبل أن يذهبوا إلى الشام.. وهنالك رأي آخر: بأنهم رجعوا من الشام، والتقوا بجابر بن عبد الله الأنصاري (رض) ومعه عطية في كربلاء.. ورأي ثالث مستند لزيارة أهل البيت (ع) لكربلاء، في يوم الأربعين للسنوات اللاحقة لقتل الحسين (ع)..
ومهما يكن من أمر، فإن زيارة الأربعين تعد اليوم من أهم المناسبات عند الشيعة؛ حيث يقوم الملايين من الزوار بالحضور إلى كربلاء مشياً على الأقدام بأطفالهم وشيوخهم ونسائهم من مدن العراق البعيدة حاملين الرايات تعبيراً عن النُصرة، إذ يقطع بعضهم ما يزيد على”500″ كيلومتر مشياً، ويتوافد الملايين من المسلمين الشيعة وغير الشيعة من كافة أنحاء العالم إلى أرض كربلاء لأداء مراسم الزيارة.
والسؤال هنا، كيف يتجمع هؤلاء الملايين من الزوار في هذا الملتقى المهيب ومن ينظمهم؟ ومن يوفر لهم التمويل اللازم لقطع المسافات الطويلة؟ ومن أين يحصلون على نفقات الطعام والمبيت لكل تلك الأيام؟ ومن يوفر لهم مستلزمات النقل والأمن والصحة، وهل بإمكان المؤسسات العراقية الأمنية ومؤسسات الخدمة والصحة والنقل أن توفر لوحدها تلك الخدمات؟ وكيف يمكن أن تتحمل مدينة صغيرة مثل مدينة كربلاء هذا العدد الكبير من الزائرين، وهي تخلو من البني التحتية اللازمة لتوفير الخدمة لسكانها؟
يبدو أن الامام الحسين بن علي “ع” هو المحرك لهذا الاجتماع المليوني في مدينة كربلاء؛ فالمنزلة الكبيرة التي حظي بها الحسين “ع” في عهد جده رسول الله “ص” والنص منه على أن الحسين سيد شباب الجنة، وأنه سيقتل مظلوما شهيدا في أرض يقال لها “كربلاء” والقيم الإنسانية الخالدة التي كان يدافع عنها وضحى هو وأهله من أجلها من جهة.
والتأكيد على زيارة الحسين “ع” في كل الأوقات والمناسبات بالخصوص في يوم الأربعين من صفر من كل عام من جهة ثانية، أصبح شعاراً لمحبي أهل البيت (ع) وعنونا أساسيا من عناوين المذهب الجعفري.. وقد ورد عن بعض أئمة الشيعة قوله أن علامات المؤمن خمسة: “التختم باليمين، وتعفير الجبين، وصلوات إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم”.
وإذا كان هناك الملايين من المسلمين يواصلون مسيرتهم نحو كربلاء لأداء مراسم الزيارة حيث يرقد الحسين “ع” فان هناك الآلاف من المسلمين أيضا تطوعوا لتقديم الخدمات لأولئك الزائرين. إذ يقوم أهالي المدن والقرى المحاذية لطريق الزائرين بنصب سرادقات (خيام كبيرة) أو يفتحون بيوتهم لاستراحة الزوّار وإطعامهم معتبرين ذلك تقرباً إلى الله وتبركاً بهم.
والحقيقة أن الأنشطة التطوعية لإحياء مراسيم أربعينية الإمام الحسين (ع) ليست حكرا على مدينة كربلاء المقدسة، ولا على المدن أو المناطق التي تحيط بها، بل، تمتد مشاهدُ العمل الطوعي في عموم محافظات وأقضية ونواحي وقرى العراق، على صورة إطعام وخدمات وتبرعات ومساعدات عينة ونقدية ومخيمات ونقل ومبيت مجاني، بصورة متواصلة على امتداد الطرق القادمة إلى كربلاء.
كما يبني الزائرون الأجانب القادمون من مختلف دول العالم المضايف والمخيمات، سواء على الحدود العراقية أو في مخارج المطارات حتى مدينة كربلاء لتقديم الخدمات للزائرين. ناهيك عن قيام المتطوعين بمساعدة رجال الأمن على حماية الزائرين وضمان سلامتهم. وفي كل سنة ومع انتهاء مراسم الزيارة وخروج الزائرين من المدينة، يباشر ألاف من الشباب للعمل التطوعي لتنظيف مدينة كربلاء.
ومن المشاهد الجاذبة للنظر في هذا المهرجان التطوعي الكبير هو اشتراك الأطفال والشباب والنساء على نحو واسع، في تقديم هذه الخدمات، وهي ظاهرة إيجابية يعمل العراقيون على تنميتها واستثمارها، لأنها تزرع في نفوس الأطفال والشباب والنساء وفي عقولهم حب العمل الطوعي الذي يرتكز على إدارة جماهيرية ذات طابع تنظيمي عال.
والملفت للنظر أيضا، أنه وباسم الشعائر الحسينية، ومحبة الحسين والتقرب إلى الله عز وجل به، كونه سيد شباب أهل الجنة وولي صالح من أوليائه، تُبنى المدارس والمستشفيات والبيوت وملاجئ الأيتام، وتُعبد الطرق والشوارع، وتُؤسس المؤسسات الخيرية للأيتام والأرامل والضعفاء، وتُكتب وتنشر الملايين من الكتب، وتُفتحُ العديد من وسائل الإعلام أبوابها، وتبث القنوات الفضائية برامجها.
واليوم، ومع دخول التنظيمات الإرهابية بعض المدن الشمالية والغربية في العراق، ونزوح أكثر من مليون ونصف من العراقيين، تستقبل مضايف ومخيمات الحسين آلاف من النازحين على اختلاف ديانتهم ومذاهبهم واتجاهاتهم الفكرية، ناهيك عن ذهاب ألاف الشباب إلى تلك المدن المغتصبة للدفاع عنها واستشهاد المئات منهم تحت راية “لبيك يا حسين”.
كل هذا يؤكد أن الحسين “ع” بشخصه وقيمه وتضحياته كان ومازال رمزا للإنسانية جمعاء، وهاديا إلى سبيل الرشاد، كما قال هو عليه السلام في كربلاء: (أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه فأن السنة قد أميتت وأن البدعة قد أحييت وأن تستمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم إلى سبيل الرشاد).