الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: أكد القرآن على القدرة المحدودة للعلم البشري فقال عز من قائل: "وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ" (هود 31)، وكذا قوله تعالى: "قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ" (الانعام 50)، وكذا قوله تعالى: "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الاعراف 188)، وأمثال ذلك مما تفيض به آيات الكتاب العزيز. ولكنه مع تأكيده على بشرية الرسل قام بتأكيد المفهوم الثاني من خلال التحدث عن الولاية التكوينية ولكن من خلال وضعها تحت إطار إذن الله كما في حديثه عن آيات عيسى (عليه السلام) الكونية "وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (ال عمران 49) وكما في قوله تعالى: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ" (المائدة 110)، ومثل هذا التأكيد يؤكد أن عملية التفويض المشار إليها في حديث الغلاة مناقضة للمفهوم القرآني، فلا القرآن يعطي لرسول استثناءات خالقية، ولا هو يجعل إرادته الإعجازية بمعزل عن إرادة الله بل يجعلها مرهونة بإرادة الله. على أن من الواضح أن حديث الغلاة يجرنا إلى مطبات الإشراك بالله وثلم شمولية التوحيد الإلهي، وهذا ما لا يقر به عاقل، فضلا عن مسلم.
واجاب الشيخ جلال الدين الصغير عن شبهة السيد محمد حسين فضل الله ان هل الولاية فعلية أم إنشائية؟ تتمحور هذه الشبهة بالتأكيد على أن هذه الولاية ولاية إنشائية، وليست فعلية بمعنى إنها إن أعطيت لأحد فلا تعطى إلا بعد بروز الحاجة إليها إن برزت، لا بمعنى أنها تمنح لصاحبها منحا إلهيا بحيث أنه يستطيع أن يتصرف بشؤونها متى ما شاء، ولست بمسبوق بأن أحدا قبل مثيرها قد أثار هذه الشبهة، فقد تحدث السيد فضل الله عن ذلك بالقول عن شخصية الرسول صلى الله عليه واله وسلم بما نصه: (إنه لا يملك علم الغيب في تكوينه الذاتي، ولا في الواقع الفعلي بشكل مطلق، وضعف وقوة، وذلك من خلال الفرضية الواقعية، وهي أنه لو كان يعلم الغيب في طاقته العلمية لأمكنه أن يجلب الخير لنفسه ويستكثر منه من خلال اطلاعه على فرص الغيب في الحاضر والمستقبل، وأن يدفع عن نفسه السوء الذي تجتمع عناصره الآن وغدا، ولكن الواقع أن البلاء قد يصيبه بشكل مفاجئ، وإن الخير قد لا يحصل لديه من خلال العناصر الخفية في الزمان والمكان والأشخاص، لأن هذه المسألة لا تتصل بمهمته الرسالية في الإنذار والتبشير، لأن ذلك لا يرتبط بعلم النبي للغيب في واقع الحياة. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: "قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ" (الاحقاف 9) فإنها تدل على نفي الفعلية في واقع الذات وحصر المسألة فيما يأتيه من الوحي، فهو خارج هذا النطاق لا يملك علم الواقع من ناحية فعلية، وبهذا يرد على ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن علم الغيب المنفي عن غير الله وارد على نحو الأصالة فلا ينافي علم غيره بالتبعية مما يصدر منه، فإن الظاهر من كل الآيات نفي العلم الذاتي حتى على نحو التبعية، ولكن أين تضع علم الخضر عليه السلام حينما عبر الله عن علمه بالغيب فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا" (الكهف 65)، بمعنى جعل النبي علاما بالغيب بحيث يملك علم الغيب في ذاته بقدرة الله في عطائه له كما أعطاه ملكاته الأخرى بل المسألة هي مسألة مفردات الغيب في حاجاته له من خلال الوحي أو بطريقة أخرى. وفي ضوء ذلك نستطيع أن نجد في النص القرآني الرد على الفكرة تجعل للنبي الولاية على الكون بأن يغيره ويبدله ويتصرف فيه من خلال القدرة العظيمة التي أودعها الله في شخصه ما يطلق عليه اسم الولاية التكوينية وإن هذه الفكرة لا تلتقي بالنصوص القرآنية). ونرد على السيد فضل الله: فهو لا يعرف من خلال هذا النص القرآني "قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الاعراف 188) ماذا يحدث له في الغد من عافية وبلاء. إلى أن يقول السيد فضل الله: (وعلى ضوء ذلك فلا مجال في النص القرآني لفكرة الولاية التكوينية للنبي أو للأنبياء كافة، وإذا كان الله قد أعطى للأنبياء القيام بالمعاجز فإنها تتصل بشكل مباشر بحاجة النبوة إلى ذلك أمام التحديات الموجهة إليهم). وقال السيد فضل الله في مكان آخر: إن قوله تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ" (يونس 49) ظاهرة في نفي الفعلية لا في نفي الاستقلال.
واستطرد الشيخ الصغير في رده على الشيخ فضل الله: هناك من القرائن الداعمة لأمر الفعلية المؤكدة لها ما يفوق العد والحصر؟ فالرب الذي إئتمن لرسول على دينه وخلقه وكتابه، ما المبرر لأن يمنحه شيئا دون ذلك من الأهمية ثم يسترده؟ وما هو المحذور من بقائه بحيث إننا نثير هذه الزوبعة؟ فمن الناحية العقلية يظهر المنح الإنشائي وجود المؤهل الذاتي، وهذا المؤهل إن أمكن وجوده في مرة أمكن إيجاده في مرات، بمعنى إن القرآن إذ يظهر لنا أن الولاية منزلة يبلغها ن يمكن أن تسلب منه كما رأينا في آية: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الاعراف 175) فهي أيضا منزلة يمكن أن تتعاظم، كما تظهر آية: من "عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ" (النمل 40) كيف أن لديه مقدار من علم الكتاب، فيما نجد آية من عنده علم الكتاب تلغي ذلك التبعيض للتحدث عن شخصية أخرى لديها علم الكتب كله. ومن كل ذلك نستخلص أن المبرر في نفي الفعلية لا وجود له خصوصا مع معرفة حقيقة أن من يمنح هذه الولاية إنما يمنحها وفقا لكفاءاته في التوحيد الإلهي العملي، وكلما ازداد يقينا في شؤون التوحيد، ازدادت منزلته في هذا المجال، الأمر الذي يعني أن الممنوح هو الذي يدافع عن فكرة عدم استقلالية إرادته ما تظهر الآية الكريمة: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" (المائدة 116). هذا ثانيا على أن كل ذلك لا يختص بالجنبة العقلية وإنما تعضده جملة كبيرة من الآيات القرآنية الواضحة الدلالة على أن شأن الفعلية ثابت، ولربما من أوضح هذه الآيات هي آية: "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (ص 34-39) فبعد تعداد جملة من شؤون الولاية جاءت الآية الأخيرة للتحدث وبمنتهى الوضوح عن أن هذا العطاء الرباني موكول إلى سليمان عليه السلام يتصرف به كيفما يشاء، وحيث ما يمنح له هذا لقدر فإنه لا ريب ينجر إلى أنه عليه السلام يستطيع فعله متى ما شاء.
https://telegram.me/buratha