الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تبارك وتعالى "وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (ال عمران 49) وكذا قوله تعالى: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ" (المائدة 110) يقول الشيخ جلال الدين الصغير: فلو لم تكن الولاية فعلية لما كان بإمكان عيسى عليه السلام أن يتحدث مع قومه بهذه الطريقة التي قد تتكرر في كل آن، وفي كل مكان كان يحل فيه عيسى عليه السلام وليس عيسى عليه السلام بأفضل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وتنطوي قصة عرش بلقيس هي الأخرى على أمور هامة لمبحثنا هذا، في تأكيدها على فعلية الولاية، فقد قال الله جل وعلا على لسان سليمان عليه السلام: "قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" (النمل 38-40) فهنا نجد أطرافا ثلاثة تتجاذب الحديث حول موضوع محدد وهو جلب عرش بلقيس من اليمن إلى قصر سليمان عليه السلام في بلاد الشام أو بلاد فارس على مفاد بعض الروايات، وهذه الأطراف هي سليمان عليه السلام الذي يطالب مجالسيه بأن يأتوه بعرش بلقيس، عد ذلك ينبري عفريت من الجن، وحسب الظاهر كان هذا هو كبير الجن المسخر أمرهم بيد سليمان عليه السلام فيقول إنه يأتي بالعرش قبل أن يقوم سليمان من مجلسه هذا، وهذا الأمر رغم ما فيه من إغراء عظيم في الإمكانية، ورغم ما فيه من ضخامة في استعراض القوة، لا يروق لسليمان عليه السلام، فيحس بغرضه وزيره ووصيه "الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ" (النمل 40) هو آصف بن برخيا كما تشير إلى ذلك الروايات فيعرض استعداده للإتيان به قبل أن تطرف عين سليمان، وربما تشير القدرة التصويرية الفائقة في تعبير آصف: "أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ" (النمل 40) على أنه كان يمتلك القدرة على الاستفادة من إمكانات تفوق إمكانات الزمان والمكان، وإنه إنما جاء بكلمة قبل الظرفية، من أجل تقرب صورة انعدام الزمن لذهن البشري الذي لم يألف انعدام الزمن. ولو لم تكن لدى ابن برخيا المقدرة الفعلية على الفعل الذي أخبر عن إمكانية النوء به حتى من دون شفعه بالإذن الإلهي الذي استبطنه، لما تعهد بهذا العمل الذي لا يمكن تعقله في الحساب المادي، ومعلوم أي دلالة يمكننا أن نستوحيها من استباق الكلام بكلمة: "أَنَا آتِيكَ بِهِ" (النمل 40). هذا ثالثا، ولقد لحظنا رابعا فيما روى الصادقين من آل محمد عليهم السلام فيما ذكرنا من روايات أن مجموعها يؤكد على وجود الفعلية في هذا الولاية.
وعن شبهة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير قادر على القيام ببعض الأفعال الخارقة للعادة استنادا الى قوله عز من قائل "سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا" (الاسراء 93) فاجاب الشيخ الصغير: للرد على هذه الشبهة علينا الرجوع الى قوله تعالى "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل 43). ولا أحسب أن هذه الشبهات بأقل وهنا من سالفاتها، وحيث أن تلك الشبهات أظهرت عيبا واضحا في فهم القرآن، وإعراضا صريحا عن سنة المعصوم عليه السلام، فإذن هذه الشبهة تظهر علاوة على ذلك قصورا جليا في فهم المعصوم عليه السلام. فعلى صاحب الشبهة كان المفروض ان يرجع الى تفسير المعصوم عليه السلام للآيات القرآنية، فتفسيره هو الذي يأخذ. فمثلا قول الإمام المهدي عليه السلام في دعاء الافتتاح: (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي) اشارة الى الآية القرآنية "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة 216)، وكذا قوله تعالى: "فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" (النساء 19). من هذا المنطلق نقول إن تشخيص ما نتصوره ضرا قد يكون لدى غيرنا هو الخير بعينه، ولهذا فتصورنا في أن المعصوم (عليه السلام) علم يبحث عن الخير مسألة متوقفة ويغر تامة، لأننا لم ندرك كنه الخير الذي في إدراك المعصوم، خصوصا وأنه لا يدخل في حساباته البعد الذاتي في شخصيته، وإنما ينظر دائما وأبدا إلى مصالح العهد الرباني الذي بين يديه، وهو لم ينله إلا بعد أن آلى على نفسه أن يتحمل الضر في سبيل مصلحة العقيدة والرسالة الربانية، وهذا ما توضحه الآية الكريمة: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" (السجدة 24) ومعلوم أن مصالح الشريعة لا تدرك بالضرورة من غير المعصوم عليه السلام، ولهذا فإن كان المعصوم يعتبر اعتبارات الشريعة تفوق أي ضرر شخصي يتوجه إليه، فإنه سوف يتحمل هذا الضرر بكل رضا، وما أروع النبي يوسف عليه السلام حينما يعبر عن هذا المفهوم بقوله: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف 33)، فهو يتحمل ضراء السجن وما يترتب عليه، من أجل خدمة العقيدة والرسالة الموكلة إليه، ولا يتحمل ذلك فحسب، وأنا يذهب إلى حد حب هذا الضر وطلبه. ومن قبل يوسف عليه السلام، كان لنا قصة ذبح إسماعيل من قبل إبراهيم عليهما السلام المشار إليها في الآية الكريمة: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" (الصافات 102)، فهنا نجد الأب إبراهيم، والابن إسماعيل عليهما السلام في مقام الرضا والتسليم بالضر الظاهري.
ويستطرد الشيخ جلال الدين الصغير قائلا: وعليه يمكن عندئذ أن ندخل الكثير من موارد التصرف بشؤون الولاية التكوينية في مضمار جلب الخير ودفع الضر، ألا تحسب معي أن سليمان حينما جلب عرش بلقيس ضمن مقايس التصرف بالولاية قد جلب الخير لنفسه، مع ملاحظة أن نفسه هنا قد تمازجت مع رسالته بحيث أصبح الاثنين واحدا، وهذا هو مقام الخلص من أولياء الله، وهو لمفاد الذي جعل القرآن الكريم يمازج ما بين نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفس الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله تعالى في آية المباهلة: "وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ" (ال عمران 61). على أننا ينبغي أن نعي حقيقة أن التفاضل المطروح بين الأولياء، إنما هو في الصبر على البلايا، ولهذا تجد منهم من آثر أمر تحمل العناء على أمر التصرف بشؤون الولاية التكوينية مع قدرته عليه، كما نجد ذلك في قص نوح عليه السلام، لذلك أثني عليه وصف بالمحسنين كما توضحه الآية الشريفة: "سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" (الصافات 79-80)، ووصف المحسنين إنما يمنح لمن يقوم بأداء الحق، فلا يكتفي بالذي عليه من الحق، بل يعمد إلى تنجيز ما هو أكثر منه كما قال الرسول صلى الله عليه واله وسلم (ما أوذي نبي مثلما أوذيت).
https://telegram.me/buratha