بين الثورة والسلطة 

عباس عبود سالم \

 

يتناقل خصوم الماركسية حكاية السيدة الروسية العجوز التي جاء بها ولدها القائد الثوري  البلشفي الكبير واسكنها منزله الجديد الذي حصل عليه او وضع اليد عليه بشكل مؤقت  بعد نجاح الثورة البلشفية 1917، وتغيير وضعه من صاحب ثورة الى صاحب سلطة ، والمنزل كان احد قصور القياصرة التي اصبحت ملك الدولة الاشتراكية بعد ان اممت وسائل الانتاج وحررت قوى الانتاج من عبودية الراسمالية، وقامت بتصفية تركة الطبقة البرجوازية وطبقة الملاك( الارستقراطية)، ولكن الوالدة العجوز لم تشعر باي ارتياح في هذا المنزل وكانت ترتجف خوفا ؟ وتلح على ولدها بان يعيدها الى كوخها الريفي في قريتهم البعيدة عن موسكو،  وعندما سألها ولدها عن السبب في ترك القصر وحياة المدينة والعودة الى الكوخ، اجابت انها تخشى ان يدخلوا عليهم  الثوار الحمر ويقتلوهم،  لانها وهي تتطلع الى النوافذ العملاقة والستائر الفخمة التي تتراقص مع الريح على جانبي الموقد المليء بالفحم الحجري، تدرك انها  وولدها  انتقلا من طبقة الفلاحين والعمال  الى الطبقة البرجوازية التي يحاربها البلاشفة الحمر!  اي  سكنهم في هذا القصر سيعرضهم لمقص ديكتاتورية البروليتاريا الذي لايرحم، ويصبح حالهم كحال القيصر نيقولا وعائلته وافراد العائلات الارستقراطية والبورجوازية الروسية، لكن الواقع ان ولدها مازال صوتا ثوريًا اقوى من اي وقت سابق لكنه ثوري بادوات القياصرة  . هذا التبدل الطبقي ليس بالامر الجديد فقد ورد ذكره في مقدمة بن خلدون وهو يدرس تبدل اوضاع عرب الجزيرة العربية بعد نجاح الفتوحات وتمكنهم من هزيمة الفرس والروم، وقليل من الباحثين من درس الاسباب والعوامل الاجتماعية التي جعلت الخليفة الرابع الامام علي بن ابي طالب يصدر امرا بايقاف الفتوحات والغزوات للاقاليم خارج الدولة الاسلامية والتفرغ لاصلاح الدولة من الداخل،  واكثر الملفات التي كثر الجدل في شانها هو ملف تضخم ثروات بعض الصحابة واركان الدولة الى درجة وصل حال البعض منهم الى تقليد ومحاكاة الرومان والفرس من حيث ترف المعيشة،  وهذا الامر ورد ذكره في القران الكريم في الآية الكريمة 25 من سورة ابراهيم {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ} . وهنا يعالج النص القرآني من خلال خمس  افعال جوهرية اثنان موجهة للانسان وهي (سكنتم، تبين لكم)، وفعل واحد للذين (ظلموا انفسهم) واثنان على لسان الخالق (فعلنا بهم، ضربنا لكم الامثال)، هنا يعالج الذكر الشريف اشكالية مهمة، وهي جدلية الصراع بين الحق والباطل وبين الكفر والايمان، وانتقال امراض الكفر الى معسكر الايمان، بين المعارضة والسلطة ، وانتقال امراض السلطة الى المعارضة التي ما ان تقبض على السلطة حتى تُمارس ذات الامور التي كانت تسجلها كنقاط ضد السلطة الظالمة، وقد حذر القران الكريم بوضوح من الوقوع بهذا الفخ. لقد ظهرت الافكار النقدية في اوربا لتعالج ازمة الحكم  لدى اليسار الاوربي بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود الاحزاب الاشتراكية والشيوعية الاوربية  في خمسينات القرن الماضي، فقد جسد جورج ارويل ذلك بدقة في رواياته الشهيرة مزرعة الحيوان، والتي تحولت الى اكثر من فليم سينمائي وفيلم كارتون باسم  Animal Farm وقد تناول ارويل بالضبط ماحدث في روسيا القيصرية بعد الاطاحة بالقيصر وقيام الاتحاد السوفيتي باسلوب قصصي فنطازي يتحدث عن مزرعة اتفقت حيواناتها على طرد الانسان وانتهاج طريقة جديدة لادارة هذه المزرعة من قبل حيواناتها التي دخلت في صراعات دامية اوصلتهم الى الكارثة حيث تنبأ بالانهيار وهو ماحصل بعد صدور الرواية بحوالي اربع عقود. وكذلك مسرحية الدوامة للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر التي عالجت المازق الذي وقع فيه اليسار الاوربي عندما يحكم بذات ادوات ومعادلات السلطة التي يعارضها. ولاننا بلاد ضربت الرقم القياسي في عدد الانقلابات والتقلبات والانقسامات المجتمعية بين انصار السلطة وانصار المعارضة فان الصورة واضحة لدينا في تكرار ذات الممارسات المرفوضة لكن باشكال وادوات مختلفة. فالنظم الجمهورية والملكية والاشتراكية والقومية التي تعاقبت على حكم العراق تقمص بعضها ادوار البعض الاخر ، فتشابهت طرق التنفيس عن العقد الداخلية، لاسيما عقدة الفقر والحرمان وعقدة التهميش، لدى القابضين على السلطة رغم اختلاف الوجوه والشخصيات. ربما نحتاج الى تعمق اكثر في الجوانب النفسية للقابض الجديد على السلطة، او متعاطي السياسة، ونتوصل الى الدافع الذي جعله يدخل العمل السياسي سيتبين لنا الجواب. فاذا اجرينا مقاربة بين وضع القابض على السلطة  وسلوكه وشكله وواقعه المعيشي اثناء المعارضة، ووضعه وسلوكه وشكله وواقعه المعيشي ايام السلطة سوف نكتشف ان دخوله السياسية واعتناقه  مبادئه الحزبية كانت في الاغلب اسهل الطرق من اجل تطوير واقعه الاجتماعي، او بدافع تحقيق الذات، لذلك فانه في مرحلة السلطة ياخذ اكثر مما يعطي ويستفيد اكثر مما يضحي،  يفقد صفة الايثار والحماس الثوري التي لازمته وهو بعيد عن السلطة ليتحول الى لاعب شطرنج ماهر يسعى لقبض ثمن نضاله وجهاده ومواقفه المعارضة، بعد دخوله منظومة السلطة، لهذا انتبه تشي غيفارا واخرون الى هذا المازق وتبنوا خيار (الثورة الدائمة) الذي انتهى بهم الى التصفيات الجسدية من قبل خصومهم في المعسكر الامبريالي الذي ثاروا ضده. ويتضح ان العيوب والانانية لاتظهر بوضوح خلال فترة المعارضة لان الجميع يتعرض لضغط مشترك ويطمح لهدف مشترك، اما في مرحلة السلطة سيكون لكل شخص هدف مختلف وتبرز حينها الدوافع الحقيقية لتعاطي العمل السياسي. لذلك تسعى الاولغارشية الحاكمة الى خلق عدو دائم  يبقي اطارها الثوري الشكلي امام جماهيرها، ويحقق لها اسباب تماسك عناصرها ويغطي على تناقضاتهم، ويحافظ على المصالح المتبادلة بينهم . دون ان ينتبه الناس الى طبقة سياسية بالامس كانت ثورية واليوم تحكم بنفس الادوات السابقة، وهو الواقع فعلا عندما يتقمص الوزير دور الوزير السابق ويتقمص ابن المسؤول الادوار الجديدة التي وجدوا انفسهم يشغلونها. وبعد 17 عام من عراق مابعد الديكتاتورية ولو اجرينا مقاربات منهجية دقيقة سنجد الكثير من الاساليب والممارسات انتقلت او تسربت من الحقبة البعثية الى الحقبة الديموقراطية. وكذلك نستطيع وبدون عناء ان ندرس الفرق في الافكار والمتبنيات والسلوك السياسي في مرحلة المعارضة عنه في مرحلة السلطة. هذه الدوامة التي عالجها مفكروا اوربا لم يتطرق لها احد ولم تدخل ضمن اهتمامات علماء النفس والاجتماع في دور الفكر والنشر والبحث والمعرفة والمؤسسات الحزبية لدينا، وظلت حبيسة الصدور او متناثرة على مقالات سطحية يكتبها موالون او ممانعون. الذي اريد قوله ان لعبة تقمص الادوار والتستر بالمبادئ والافكار المقدسة لم تعد امر كاف للدخول في حصون السلطة، التي حذر افلاطون من اجتماعها مع المال بيد شخص واحد،  فاما تملك السلطة وتسقط عنك الملكية، او تملك المال وتتنازل على السلطة، والا فانك مخادع دخلت السياسة كي تجني المال، وتسكن قصور القياصرة الذين اسقطتهم، والتي وصفها القران الكريم بانها (مساكن الذين ظلموا).