حازم أحمد ||
الأخ والنظير في ثوابت شخصية مالك الأشتر، قَبَسٌ مِنه.
(... وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ... )
مِنْ عَهْدِ أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) لمالِك الأشتر (رضوان الله عليه) لَمّا ولّاه مصر.
الإمام علي (ع) هو أعلم وأفقه الناس بالقرآن الكريم بعد النبي الأكرم (ص).
ينطلق الإمام هنا من حقيقة وحدة الدين الإلهي، لأنَّ الإمام استعمل كلمة (الناس) إذْ قال (عليه السلام):
(ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك...) فذكر كلمة (الناس) ولم يُخصص مِلّة أو طائفة، وهو سيد البلغاء والمتكلمين.
المجتمع المصري مرَّت عليه حضاراتٌ قديمة، ومِلَلٌ، وثقافات؛ مِنَ الفرعونية والصِّراعات التوراتية بينها وبين بني إسرائيل بقيادة النبي موسى (ع) ووزيره هارون (ع)، ثُمَّ الإنجيلية بصفتها التعاليم الجديدة لبَني إسرائيل على يد نبيّ الله عيسى ابن مريم (عليهما السلام)... وصولًا إلى رسالة النبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله)، فلم تكن مصر أُحادية المِلّة بل كانت متعددة، ولا شك كانت فئة من بين ذلك المجتمع لا تعتنق أي مِلّة؛ ومِنْ ثَمَّ لا تنتمي لدين الإسلام.
الدِّين واللاديني:
مَن هو الصنف الآخر الذي ورد في هذا العهد؟
رجوعًا للقرآن الكريم الذي يُمَثِّل نبوَّة النبي (ص) نقرأ:
((إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) الحج 17.
هذه الآية ذكرت هذه المِلَل: الذين آمنوا، الذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس.
ولم تذكر مفهوم (الإسلام)، هذا لأنّ الإسلام يشمل هذه المِلَل كلها، ومِلّة وأمّة النبي الخاتم محمد (ص) هي (الذين آمنوا)، كل من آمن وشهد وصدَّقَ نبوة محمد فهو من أمته ويسمى من (الذين آمنوا)، أما مسألة الارتقاء وسمو المراتب فهذا لا بد أن ترافقه (التقوى)، وأكثر من ذلك سموًّا (الإحسان) ويرافق ذلك كله الإيمان وعمل الصالحات:
((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) المائدة 93.
مفهوم الدين ومصاديق المِلَل:
((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ... )) آل عمران 19.
ولا دين غير الإسلام مُذ بعث الله نوحًا نبيًا... إلى خاتمة النبوة.
واقرأ قوله تعالى:
((وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) البقرة 132.
(الدين - مسلمون)، ولا دين آخرَ غيره.
أمّا خِلاف ذلك فهي مِلَل:
((وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ... )) البقرة 120. هذا في أقصى اليمين: مِلَّة اليهود والنّصارى؛ أما في أقصى اليسار:
((وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) البقرة 135. فهي مِلّة إبراهيم حنيفًا.
بعد هذا العرض للآيات المباركات فإنّ كلمة أمير المؤمنين (ع): (وإمّا نظيرٌ لك في الخلق) يقصد بها (اللاديني، اللاأدري... ) ولا يقصد بها مسيحيًا أو يهوديًا... إلخ، فهذه مسؤولية الحاكم أنْ يعدل بين (الناس) ولا يُميِّز ماليًا وإداريًا، ولا يقتل على الهوية، ولا يفرض ثقافته وفكره عليهم مُصادرًا ثقافتهم وإرادتهم.
الإمام علي (عليه السلام) ذكر مفهوم الدين مُعرِّفًا إيّاه بالألف واللام (... في الدين... ) وهو الدين الواحد الذي يضم تلك المِلَل كلها.
مِن هنا برزت هذه المفهومات الأصيلة نازلةً من سماء فكر الإمام علي (ع): العدل، حرية المعتقد، حرية الثقافة، حق المواطَنَة...
شخصية الأشتر مقياس الثابت:
هناك ثوابت الإنسانية؛ لأنّ الإمام قال (الناس)، إذ لم يُشِر إلى الجانب الفيزيولوجي في (البشر) والذي يشترك به مع الحيوان، ثم قال (أخٌ لكَ... نظيرٌ لكَ)، ومِنْ ثَمّ الذي يُفسِد في الأرض، ويسعى لتدمير المجتمعات، ويتوغَّل في التطرف اليميني فإنّه خرج عن دائرة (الناس) وهو لم يعد أخًا ولا نظيرًا؛ فقد ابتعد عن ثوابت شخصية (مالك الأشتر) التي جعلها الإمام علي (ع) مقياسًا ثابتًا لتوصيف الأخ والنظير، فرضوان الله على مالك الأشتر حواريّ عليٍّ.
والحمد لله ربِّ العالمين
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha
![](https://telegram.org/img/t_logo.png)