طيب العراقي
عالم اليوم قرية متسارعة الأحداث، ومن الصعب تمييز الخيط الأبيض من الأسود؛ والسبب هو أن العقل بات مستهلكاً بشكل كبير تبعاً لظواهر الأمور، ولا يكلف الإنسان نفسه عناء التدقيق والتمحيص لفهم بواطنها، لذلك إختلط الحابل بالنابل، فمثلاً التأريخ الأمريكي لم يكن في يوم من الأيام تأريخاً نقياً مشرفاً، بل كان ملوثاً محملاً بأبشع الجرائم وأكثرها قمعاً وقهراً وبلا حدود، ومع ذلك تراهم ينتجون في مصانعهم أساطير، وملاحم عن أبطال مزيفين في معظم الأحيان، لتبيض صورتهم البشعة بنظر المخدوعين.
نحن العراقيون لا نحتاج الى أساطير، أو مصانع من أجل خلق إبطال مزيفين، لأننا دون شك بدأنا نفهم أن الأبطال تخلق من الشدائد، وقد أفرزت لنا التجربة الداعشية كثيراً من الدروس، وخلقت إبطالاً حقيقيين لا غبار عليهم، لذا نحن بحاجة الى أن نكون متكاتفين، من أجل تجاوز المحن التي تعصف بالبلد.
إذا تعاملنا (نحن) وهي تشمل جميع مَنْ يعيش فوق هذه المعمورة دون إستثناء، بشيء من التعقل، والحنكة، والتروي، وبكف من الشجاعة، وبقبضة من الحكمة، لإستطعنا مواجهة التحديات والأزمات، التي وقف كثير من الساسة عاجزين عن معالجتها، أو تداركها وتجاوزها، والمقام هنا لا يحتمل مزيد من ترهات الساسة الفلسفية، حيث تدمى القلوب وتحبط الروح وتبكى العين، فالحقيقة المرة التي برزت عن هؤلاء الفاسدين، أنهم تلاعبوا بخسة وغدر بأرواح الأبرياء طيلة عقد ونيف من الزمن، دون أن يرفع إصبع واحد بوجههم.
لابد من وجود غرفة كبيرة بطاولة مستديرة، وفيها حكماء وخبراء من أصحاب الفكر النير والبصيرة، يبحثون ويتفحصون ويجدون طرق العلاج للمشاكل واحدة تلو الأخرى، ويرسلونها الى كل الجهات التي تستطع أن تؤثر على القرار، بدءاً من المرجعية حتى الحكومة، وكذلك أصحاب القرار في الأحزاب، لتساعدهم على تجاوز الإخفاقات بأسرع الأوقات، وإلا ما فائدة الكم الهائل من المناصب داخل رئاسة الجمهورية والوزراء، ومجلس النواب من أهل الحل والعقد، فليس كل ما يقال يدخل في عالم الصدق والتصديق، لذلك وجب الدقة والحذر، عند إختيار الباطنة الخاصة من أهل الفكر والمشورة.
غرفة الفكر والحوار باتت حاجة ضرورية لأي حكومة، خاصة لمَنْ ترغب في أداء برنامجها الحكومي على أفضل وجه، وأجزم بأن الهم الأول للحكومات طيلة العقد الماضي هو الإستقرار الأمني، فأقول للحكومة: ليس من المعقول وجود أجهزة مخابراتية لكل دول العالم على أرض العراق، بينما أرض العراق لا تمتلك جهاز إستخباري رصين يؤدي مهماته بشكل ولائي مطلق! وبالتالي تحدث النكبات والكوارث.
إن دور رجال الفكر في هذه الغرفة، هو إيصال رسالة واضحة المعالم للناس كي تطمئنهم، مفادها إننا جميعاً سنبقى مشاريع ناقصة لا تكتمل، ما لم نتحد ونتوحد من أجل العراق، فهو كبير بما يكفي، ليكون لنا جميعاً بتنوعاتنا وتقاطعاتنا المقبولة، وغير المقبولة، وإن كان العراق قد أستبيح ثلثه في ليلة ظلماء، بسبب دهاليز السياسة؛ فلابد من إعادة جسور البناء والثقة، بعنوان أكبر وأعمق وأصدق، كما أن مشكلتنا اليوم باتت أزمة هوية، لذا لا يوجد عنوان اكبر من مستقبل العراق، ليحتوينا بكل المكونات، والقوميات، والأديان، والمذاهب، والطوائف.
أزمة الوعي وعدم الإخلاص، والهروب من المسؤولية، أصبحت قيماً شائعة بين أفراد بعض ساستنا، فنجد أن الأفعال لا تطابق الأقوال، وهذه من أشد الأزمات خطورة التي تعصف بأحوالنا، فالحضارة، والحرية، والديمقراطية، والانسياق وراء التطور الزائف، والغطاء المتشدق بحقوق الإنسان، أمور كلها جعلت العراق يعيش حالة من الخوف والإرتباك، وإن الخطر الأكبر الذي يهدد بلدنا الآن، هو محاولات محو ثقافتنا الدينية والوطنية والثقافية تحت ذرائع شتى.
ختاماً: غرفة الفكر التي أقصدها مستقلة في قراراتها، لا تتأثر بالضغوط مهما كانت، غير متحزبة، ليس لها صلة بأهل الحل والعقد التابعة للرئاسات الثلاث، بل هي غرفة تتكون من رجال العقل والحكمة والفكر النير، في كل المجالات، وجميعهم يعملون خبراء في إختصاصاتهم، وأساتذة في الجامعات يتقاضون رواتبهم منها، لا يفكرون بالمال، ليبقى همهم الوحيد النهوض بالبلد نحو بر الأمان، والصعود للقمة بشتى المجالات.
https://telegram.me/buratha
