الشيخ جميل الربيعي
عرفته في سنة 1967م عندما كنت أمارس التعليم في قريتهم (العمرانية) قرب قضاء المقدادية من محفظة ديالى، وكان عمره الزمني آنذاك أقل من سن التكليف، ولكن عمره العقلي أكبر من ذلك بكثير؛ ولذلك لفت نظري في سموه الخلقي، وذكائه، وأدبه الجم، حيث كان يتعامل معنا آنذاك بأدب عالٍ وروحية إسلامية شفافة، ولما تحريت عن ذلك اكتشفت أنه من عائلة كريمة مضيافة معروفة، فأبوه (رحمه الله) من وجهاء المنقطة صاحب مضيف مفتوح لكل وارد لتلك القرية الصغيرة النائية، فيجد حسن الاستقبال، وكرم الضيافة، وطيب المعشر، ورغم ذلك كله كان والده يشعر بالتقصير، فيبدي اعتذاره لضيوفه مع بذله المفرط .
وقد جاءني يوماً وهو يحمل رواية أدبية، عنها، وطلب مني إبداء رأيي؛ ليعرف هل تفيده أو لا، ومن هنا كان منذ نعومة أظفاره متطلعاً للمعرفة، طالباً لها متسائلاً عن أساليب كسبها، في وقت يندر فيه وجود الكتاب في تلك المناطق النائية عن مراكز العلم والمعرفة؛ ولهذا كنت أحاول أن أحصل له على كتيبات تناسب عمره، واستمر يواصلني، ويكتب ما يخطر في ذهنه، ويأتي به ليعرضه عليّ وعلى بقية المعلمين الآخرين، ولهذا أثار عجبنا تطلعه للمعرفة، وجديته في البحث عنها، واستمر على هذا المنوال إلى أن انتقلت أنا من تلك المنطقة وصار وصوله إلينا صعباً، فكان يحاول أن يراسلنا.
وغاب عنا لمدة طويلة إلى أواخر مدة الدراسة المتوسطة، ثم اشتدت الرقابة البعثية على العناصر المتدينة الواعية النظيفة التي تعمل خلافاً لمنهج حزب البعث، وصرنا آنذاك نواجه التهديد بالسجن والمطاردة، واستمر هذا الحال طيلة سنوات العقد السبعيني، من القرن الماضي فكنا بين سجن وتحقيق ومراقبة، وكان هذا الشاب الأريحي الشجاع يواجه ما نواجه رغم صغر سنه لاتصاله ببعض المؤمنين في المقدادية وفي بعقوبة ومحاولته الحصول على البحوث والدراسات الإسلامية، وكان يشكو لنا ما يلاقيه، وكنا نحاول أن نعبئه روحياً وفكرياً لمقاومة هذه الضغوط.
ولم يطل الوقت بنا حتى صدرت على كثير منا أوامر إلقاء القبض، وأعدم البعض، وحكم البعض الآخر بالسجن، ومن كان حراً طليقاً لا يستطيع أن يستقر في مكان واحد، بل كان يتنقل خائفاً مذعوراً من المداهمة البعثية، ولذلك اضطررنا إلى الهجرة بعد صدور أحكام الإعدام على كثير منا.
وفي أوائل الثمانينات هاجر الشهيد كنعان من العراق إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأدخل في بعض مخيمات لجوء العراقيين قرب طهران، ولما لم يكن يعرف من المهاجرين إلا أنا، صار يتساءل كثيراً وينادي باسمي، ويسأل عني.
وفي أحد المرات التقاه الشهيد ابراهيم صالح (أبو غالب)، وسأله عن معرفته لي، فقال له: (إنه أستاذي ومعلمي)، ولما لم أكن أنا موجوداً آنذاك حيث كنت قد وقعت في كمين لعملاء صدام مما يسمى بالحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني للمجرم قاسملو، وحجزوني عندهم لمدة طويلة دامت اربع سنوات، كتب رسالة مفصلة بأسلوب أدبي رائع إلى شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم (رحمه الله)، وطلب مقابلته، فتدخل السيد الحكيم، وأخرجه من المخيم.
وعندما فرج الله عني كان في مقدمة المستقبلين الشاب الوسيم المتحمس للقائي كنعان علوان، ورغم وجود من هو أسبق منه إليّ كان يصر على أن يأخذني إلى شقته في شمال طهران، ولما لم يحصل ذلك له بدا تأثره وحزنه حيث يريد أن لا يفارقني.
وعلى كل حال تعرفت عليه من جديد، بعد فراق دام لعدة سنوات، فوجدته قد نما فكرياً وروحياً وأخلاقياً، ومن هنا أقول إن الشهيد المرحوم كنعان يتميز بأبعاد عديدة أستطيع أن أوجزها:
1- البعد الثقافي، حيث كان محباً ومتطلعاً للمعرفة، ومتابعاً لما يصدر في الساحة الفكرية، سواء على مستوى الكتب أو الجرائد أو المجلات، وكان كثير المطالعة والبحث، وفي أحيان كثيرة يكتب بعض المقالات الفكرية، ويعرضها على من يعتقد بثقافته، ومن هنا تنوعت ثقافته بين ثقافة فقهية، وتأريخية، وروحية، وأخلاقية، وإن كنت أنسى فلا أنسى المكتبة التي كونها في بيته بعد أن استقر في طهران، وأجده دائماً منكباً على الكتاب رغم كثرة مراجعيه وأصدقائه ومعارفه.
2- البعد الروحي، فقد كان محافظاً على عباداته من صوم وصلاة ودعاء، وقد رأيته في أحيان كثيرة في بعض مجالس الدعاء التي كانت تعقد في المهجر كثير البكاء والتضرع والخشوع.
وكان شديد الولاء لأهل البيت (ع) باحثاً في تاريخهم، متطلعاً للتأسي بهم، ولذلك كان في بداية المشاركين في قتال البعثيين عند هجومهم على الجمهورية الإسلامية، حتى أصيب بشم بعض المواد الكيمياوية التي فجرها حزب البعث ضد المجاهدين، فأصبح يعاني من ذلك كثيراً وتردت صحته، ورغم المعالجات الكثيرة التي حاول أن يتشافى منها إلا أنه بقي على حالته إلى يوم استشهاد السيد مهدي الحكيم في السودان، وحين خرجت مظاهرة كبرى استنكاراً على جريمة قتل السيد الحكيم صعد يخطب في جو بارد شديد مما أثر على صحته كثيراً، حتى أدت إلى وفاته، ومما يحز في نفسي أنني أردت أن أعرَّف به في مجتمع عام عند رحيله إلا أن بعض الناس المصلحيين لم يفسح لي المجال في التعريف به، وعلى كل حال مضى إلى ربه شهيداً غريباً عن بلاده، رحمه الله.
3- البعد الاجتماعي، لقد كان يتحرك في دائرة واسعة من العلاقات الاجتماعية ، كثير الاتصال بالناس محسنا اليهم، ساعياً لقضاء حوائجهم، ورغم تردي صحته إلا أنه لم يتوقف أبداً عن قضاء حوائج المؤمنين والسعي لحل مشاكل المهاجرين؛ ولذلك كان بيته مأوى لكل مهاجر جديد.
4- البعد الأخلاقي، تميز المرحوم كنعان بالسمو الخلقي في كل ما تحمل الكلمة من معنى، فهو صاحب أخلاق عالية، حسن اللقاء ، لين الكلام، طيب المعشر، متواضعاً، عفواً، عزيز النفس، أبياً، من تعرف عليه يحن إليه، ولذا رأينا كثرة الباكين عليه في يوم تشييعه في أرض المهجر، ولعل هذه السمة (معالي الأخلاق) كانت من أبرز صفاته الشخصية، فلم أرَه جفا أحداً من إخوانه، بل كان يتحمل جفاء الآخرين، ويسكت عن سلبياتهم، ويواصل الاتصال بهم ليعمل على تغييرهم نحو الأحسن.
لقد مضى إلى ربه وترك في نفوس معاشريه أثراً طيباً؛ ولذا ما ذكر في مجمع إلا وتأسف الآخرون عليه، وعلى كل حال فالشهيد كنعان من الشخصيات الإسلامية المؤمنة، العاملة، المجاهدة، في سبيل الله، لم يترك لحظة من عمره إلا وبذلها للإسلام.
5- البعد السياسي، لقد كان واعياً لمتطلبات زمانه، عارفاً بمقتضيات العمل رغم حراجة الظروف، وكثرة المهرجين باسم الدين والإسلام، بادعاءات فارغة من قبل تجار الدين الذين كانوا يتخذون الدين تجارةً، ومن هنا كان أشد ما يؤذيه أن يرى بعض الناس ممن ليس له في الدين ناقة ولا جمل أن يتطفل على الدين ، ويدعي أنه من أهله مع أنه فارغ منه شكلاً ومضموناً.
وأخيراً أقول: رحمك الله يا أبا ذر، فلقد كنت عميق الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، غيوراً على دينك الحنيف، مؤمناً بمبادئه، ساعياً لنشرها، مدافعاً عنها، داعياً لتطبيقها، متأسياً بالنبي المصطفى وأهل بيته الطاهرين، موالياً لأوليائهم، معادياً لأعدائهم، فسلام عليك يوم ولدت، ويوم هاجرت، ويوم استشهدت في سبيل الله، اذكرنا عند ربك.
https://telegram.me/buratha
